الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الإتقان في علوم القرآن ***
فِيهِ مَسَائِلُ: قَالَ تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أَنْزِلُ فِيهِ الْقُرْآنُ} [الْبَقَرَة: 185]. وَقَالَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الَقَدْرِ} [الَقَدْر: 1]. اخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ إِنْزَالِهِ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ الْأَصَحُّ الْأَشْهَرُ: أَنَّهُ نَزَلَ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا لَيْلَةَ الَقَدْرِ جُمْلَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُنَجَّمًا فِي عِشْرِينَ سَنَةً، أَوْ ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ، أَوْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ، عَلَى حَسْبِ الْخِلَافِ فِي مُدَّةِ إِقَامَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْبَعْثَةِ. أَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ مَنْصُورٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ فِي لَيْلَةِ الَقَدْرِ جُمْلَةً وَاحِدَةً إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَكَانَ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَكَانَ اللَّهُ يُنَزِّلُهُ عَلَى رَسُولِ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضُهُ فِي إِثْرِ بَعْضٍ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا لَيْلَةَ الَقَدْرِ، ثُمَّ أُنْزِلَ بَعْدَ ذَلِكَ بِعِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ قَرَأَ {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الْفُرْقَان: 33]. {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الْإِسْرَاء: 106]». وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَفِي آخِرِه: فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ إِذَا أَحْدَثُوا شَيْئًا أَحْدَثَ اللَّهُ لَهُمْ جَوَابًا. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ حَسَّانِ بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «فُصِلَ الْقُرْآنُ مِنَ الذِّكْرِ، فَوُضِعَ فِي بَيْتِ الْعِزَّةِ مِنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَجَعَلَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ بِهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» أَسَانِيدُهَا كُلُّهَا صَحِيحَةٌ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَزَّارُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ قَالَ: أُنْزِلُ الْقُرْآنِ جُمْلَةً وَاحِدَةً حَتَّى وُضِعَ فِي بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَنَزَّلَهُ جِبْرِيلُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَوَابِ كَلَامِ الْعِبَادِ وَأَعْمَالِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ: دُفِعَ إِلَى جِبْرِيلَ فِي لَيْلَةِ الَقَدْرِ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَوَضَعَهُ فِي بَيْتِ الْعِزَّةِ، ثُمَّ جَعَلَ يُنَزِّلُهُ تَنْزِيلًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي الْمُجَالِدِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَطِيَّةَ بْنَ الْأَسْوَدِ فَقَالَ: أَوْقَعَ فِي قَلْبِي الشَّكُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنَزِلَ فِيهِ الْقُرْآنِ} [الْبَقَرَة: 185] وَقَوْلُهُ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الَقَدْرِ} وَهَذَا نَزَلَ فِي شَوَّالَ وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ وَذِي الْحِجَّةِ وَفِي الْمُحَرَّمِ وَصَفَرَ وَشَهْرِ رَبِيعٍ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ أُنْزِلَ فِي رَمَضَانَ فِي لَيْلَةِ الَقَدْرِ جُمْلَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ أُنْزِلَ عَلَى مَوَاقِعِ النُّجُومِ رَسْلًا فِي الشُّهُورِ وَالْأَيَّامِ. قَالَ أَبُو شَامَةَ: قَوْلُهُ (رَسْلًا): أَيْ: رِفْقًا، (وَعَلَى مَوَاقِعِ النُّجُومِ) أَيْ: عَلَى مِثْلِ [مَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَمَوَاقِعُهَا]: مَسَاقِطُهَا، يُرِيدُ أُنْزِلَ فِي رَمَضَانَ فِي لَيْلَةِ الَقَدْرِ جُمْلَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ أُنْزِلَ عَلَى مَا وَقَعَ مُفَرَّقًا يَتْلُو بَعْضُهُ بَعْضًا، عَلَى تُؤَدَةٍ وَرِفْقٍ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ نَزَلَ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي عِشْرِينَ لَيْلَةِ قَدْرٍ، أَوَثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، أَوْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مَا يُقَدِّرُ الِلَّهُ إِنْزَالَهُ فِي كُلِّ السَّنَةِ، ثُمَّ أُنْزِلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُنَجَّمًا فِي جَمِيعِ السَّنَةِ. وَهَذَا الْقَوْلُ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ بَحْثًا، فَقَالَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ يُنْزِلُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ قَدْرَ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَى إِنْزَالِهِ إِلَى مِثْلِهَا، مِنَ اللَّوْحِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا. ثُمَّ تَوَقَّفَ، هَلْ هَذَا أَوْلَى أَوِ الْأَوَّلُ!. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا الَّذِي جَعَلَهُ احْتِمَالًا نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ، عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ وَحَكَى الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ نَزَلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا. قُلْتُ: وَمِمَّنْ قَالَ بِقَوْلِ مُقَاتِلٍ: الْحَلِيمِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ: آخِرُ الْقُرْآنِ عَهْدًا بِالْعَرْشِ آيَةُ الدَّيْنِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ ابْتُدِئَ إِنْزَالُهُ فِي لَيْلَةِ الَقَدْرِ، ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُنَجَّمًا فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ سَائِرِ الْأَوْقَاتِ. وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيّ: وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدُ، قَالَ: وَقَدْ حَكَى الْمَاوَرْدِيُّ قَوْلًا رَابِعًا: أَنَّهُ نَزَلَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَأَنَّ الْحَفَظَةَ نَجَّمَتْهُ عَلَى جِبْرِيلَ فِي عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَأَنَّ جِبْرِيلَ نَجَّمَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِشْرِينَ سَنَةً. وَهَذَا أَيْضًا غَرِيبٌ. وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُهُ فِي رَمَضَانَ بِمَا يَنْزِلُ بِهِ فِي طُولِ السَّنَةِ. وَقَالَ أَبُو شَامَةَ: كَأَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْلِ أَرَادَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْقَوْلَيْن: الْأَوَّلِ وَالثَّانِي. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنْ عِنْدِ الِلَّهِ، مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَنَجَّمَتْهُ السَّفَرَةُ عَلَى جِبْرِيلَ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَنَجَّمَهُ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِشْرِينَ سَنَةً.
قِيلَ السِّرُّ فِي إِنْزَالِهِ جُمْلَةً إِلَى السَّمَاء: تَفْخِيمُ أَمْرِهِ وَأَمْرِ مَنْ نَزَلَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بِإِعْلَامِ سُكَّانِ السَّمَاوَاتِ السَّبْع: أَنَّ هَذَا آخِرُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى خَاتَمِ الرُّسُلِ لِأَشْرَفِ الْأُمَمِ، قَدْ قَرَّبْنَاهُ إِلَيْهِمْ لِنُنَزِّلَهُ عَلَيْهِمْ، وَلَوْلَا أَنَّ الْحِكْمَةَ الْإِلَهِيَّةَ فِي نُزُولِ الْقُرْآنِ مُنَجَّمًا اقْتَضَتْ وُصُولَهُ إِلَيْهِمْ مُنَجَّمًا بِحَسْبِ الْوَقَائِعِ لَهَبَطَ بِهِ إِلَى الْأَرْضِ جُمْلَةً، كَسَائِرِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ قَبْلَهُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ بَايَنَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَجَعَلَ لَهُ الْأَمْرَيْن: إِنْزَالُهُ جُمْلَةً، ثُمَّ إِنْزَالُهُ مُفَرَّقًا؛ تَشْرِيفًا لِلْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ. ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو شَامَةَ فِي الْمُرْشِدِ الْوَجِيزِ. وَقَالَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، تَسْلِيمًا مِنْهُ لِلْأُمَّةِ مَا كَانَ أَبْرَزَ لَهُمْ مِنَ الْحَظِّ بِبَعْثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ أَنَّ بَعْثَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ رَحْمَةً، فَلَمَّا خَرَجَتِ الرَّحْمَةُ بِفَتْحِ الْبَابِ جَاءَتْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْقُرْآنِ، فَوُضِعَ الْقُرْآنُ بِبَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا لِيَدْخُلَ فِي حَدِّ الدُّنْيَا، وَوُضِعَتِ النُّبُوَّةُ فِي قَلْبِ مُحَمَّدٍ، وَجَاءَ جِبْرِيلُ بِالرِّسَالَةِ ثُمَّ الْوَحْيِ، كَأَنَّهُ أَرَادَ تَعَالَى أَنَّ يُسَلِّمَ هَذِهِ الرَّحْمَةَ الَّتِي كَانَتْ حَظَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ اللَّهِ إِلَى الْأُمَّةِ. وَقَالَ السَّخَاوِيُّ فِي جَمَالِ الْقُرَّاءِ: فِي نُزُولِهِ إِلَى السَّمَاءِ جُمْلَةً، تَكْرِيمُ بَنِي آدَمَ وَتَعْظِيمُ شَأْنِهِمْ عِنْدَ الْمَلَائِكَةِ، وَتَعْرِيفُهُمْ عِنَايَةَ اللَّهِ بِهِمْ وَرَحْمَتَهُ لَهُمْ؛ وَلِهَذَا الْمَعْنَى أَمَرَ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَنْ تُشَيِّعَ سُورَةَ الْأَنْعَامِ، وَزَادَ سُبْحَانَهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى بِأَنْ أَمَرَ جِبْرِيلَ بِإِمْلَائِهِ عَلَى السَّفَرَةِ الْكِرَامِ وَإِنْسَاخِهِمْ إِيَّاهُ وَتِلَاوَتِهِمْ لَهُ. قَالَ: وَفِيهِ- أَيْضًا- التَّسْوِيَةُ بَيْنَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي إِنْزَالِهِ كِتَابَهُ جُمْلَةً، وَالتَّفْضِيلُ لِمُحَمَّدٍ فِي إِنْزَالِهِ عَلَيْهِ مُنَجَّمًا لِيَحْفَظَهُ. قَالَ أَبُو شَامَةَ: فَإِنْ قُلْتَ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الَقَدْرِ} مِنْ جُمْلَةِ الْقُرْآنِ الَّذِي نَزَلَ جُمْلَةً أَمْ لَا؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ، فَمَا نَزَلَ جُمْلَةً وَإِنْ كَانَ مِنْهُ فَمَا وَجْهُ صِحَّةِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ؟. قُلْتُ: لَهُ وَجْهَان: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْكَلَامِ إِنَّا حَكَمْنَا بِإِنْزَالِهِ فِي لَيْلَةِ الَقَدْرِ، وَقَضَيْنَاهُ وَقَدَّرْنَاهُ فِي الْأَزَلِ. وَالثَّانِي: أَنَّ لَفْظَهُ لَفْظُ الْمَاضِي وَمَعْنَاهُ الِاسْتِقْبَالُ، أَيْ: يُنَزِّلُهُ جُمْلَةً فِي لَيْلَةِ الَقَدْرِ. انْتَهَى.
قَالَ أَبُو شَامَةَ أَيْضًا: الظَّاهِرُ أَنَّ نُزُولَهُ جُمْلَةً إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا قَبْلَ ظُهُورِ نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا. قُلْتُ: الظَّاهِرُ هُوَ الثَّانِي، وَسِيَاقُ الْآثَارِ السَّابِقَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ صَرِيحٌ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيّ: قَدْ خَرَّجَ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَع: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَالْإِنْجِيلُ لِثَلَاثَ عَشَرَ خَلَتْ مِنْهُ، وَالزَّبُورُ لِثَمَانِ عَشَرَةَ خَلَتْ مِنْهُ، وَالْقُرْآنُ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْهُ» وَفِي رِوَايَةٍ «وَصُحُفُ إِبْرَاهِيمَ لِأَوَّلِ لَيْلَةٍ» قَالَ: وَهَذَا الْحَدِيثُ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [الْبَقَرَة: 185]. وَلِقَوْلِهِ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الَقَدْرِ} فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَيْلَةَ الَقَدْرِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ كَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَأُنْزِلَ فِيهَا جُمْلَةً إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ أُنْزِلَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ إِلَى الْأَرْضِ أَوَّلُ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}. قُلْتُ: لَكِنْ يُشْكِلُ عَلَى هَذَا مَا اشْتُهِرَ مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ فِي شَهْرٍ رَبِيعٍ. وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِمَا ذَكَرُوهُ أَنَّهُ نَبِيٌّ أَوَّلًا بِالرُّؤْيَا فِي شَهْرِ مَوْلِدِهِ، ثُمَّ كَانَتْ مُدَّتُهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ أُوحِيَ إِلَيْهِ فِي الْيَقَظَةِ. ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ. نَعَمْ يُشْكِلُ عَلَى الْحَدِيثِ السَّابِق: مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: أُنْزِلَتِ الْكُتُبُ كَامِلَةً لَيْلَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ.
قَالَ أَبُو شَامَةَ- أَيْضًا-: فَإِنْ قِيلَ: مَا السِّرُّ فِي نُزُولِهِ مُنَجَّمًا؟ وَهَلَّا أُنْزِلَ كَسَائِرِ الْكُتُبِ جُمْلَةً؟ قُلْنَا: هَذَا سُؤَالٌ قَدْ تَوَلَّى اللَّهُ جَوَابَهُ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} يَعْنُونَ كَمَا أُنْزِلَ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ، فَأَجَابَهُمْ تَعَالَى بِقَوْلِه: كَذَلِكَ أَيْ: أَنْزَلْنَاهُ كَذَلِكَ مُفَرَّقًا {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الْفُرْقَان: 32] أَيْ: لِنُقَوِّيَ بِهِ قَلْبَكَ؛ فَإِنَّ الْوَحْيَ إِذَا كَانَ يَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ كَانَ أَقْوَى بِالْقَلْبِ، وَأَشَدَّ عِنَايَةً بِالْمُرْسَلِ إِلَيْهِ، وَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ كَثْرَةَ نُزُولِ الْمَلَكِ إِلَيْهِ، وَتَجَدُّدِ الْعَهْدِ بِهِ وَبِمَا مَعَهُ مِنَ الرِّسَالَةِ الْوَارِدَةِ مِنْ ذَلِكَ الْجَنَابِ الْعَزِيزِ، فَيَحْدُثُ لَهُ مِنَ السُّرُورِ مَا تَقْصُرُ عَنْهُ الْعِبَارَةُ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ لِكَثْرَةِ لِقَائِهِ جِبْرِيلَ. وَقِيلَ: مَعْنَى {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} أَيْ: لِحِفْظِهِ، فَإِنَّهُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَانَ أُمِّيًّا لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ، فَفُرِّقَ عَلَيْهِ لِيَثْبُتَ عِنْدَهُ حِفْظُهُ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّهُ كَانَ كَاتِبًا قَارِئًا، فَيُمْكِنُهُ حِفْظُ الْجَمِيعِ. وَقَالَ ابْنُ فَوْرَكَ: قِيلَ: أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ جُمْلَةً؛ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى نَبِيٍّ يَكْتُبُ وَيَقْرَأُ وَهُوَ مُوسَى. وَأَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ مُفَرَّقًا لِأَنَّهُ أُنْزِلَ غَيْرَ مَكْتُوبٍ عَلَى نَبِيٍّ أُمِّيٍّ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّمَا لَمْ يَنْزِلْ جُمْلَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ مِنْهُ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ إِلَّا فِيمَا أُنْزِلَ مُفَرَّقًا، وَمِنْهُ مَا هُوَ جَوَابٌ لِسُؤَالٍ وَمِنْهُ مَا هُوَ إِنْكَارٌ عَلَى قَوْلٍ قِيلَ أَوْ فِعْلٍ فُعِلَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَنَزَّلَهُ جِبْرِيلُ بِجَوَابِ كَلَامِ الْعِبَادِ وَأَعْمَالِهِمْ، وَفَسَّرَ بِهِ قَوْلَهُ: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ} [الْفُرْقَان: 33] أَخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْآيَةَ تَضَمَّنَتْ حِكْمَتَيْنِ لِإِنْزَالِهِ مُفَرَّقًا. تَذْنِيبٌ: مَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَنَّ سَائِرَ الْكُتُبِ أُنْزِلَتْ جُمْلَةً- هُوَ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعُلَمَاءِ وَعَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، حَتَّى كَادَ أَنْ يَكُونَ إِجْمَاعًا، وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ فُضَلَاءَ الْعَصْرِ أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَقَالَ: إِنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، بَلِ الصَّوَابُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ مُفَرَّقَةً كَالْقُرْآنِ. وَأَقُولُ: الصَّوَابُ الْأَوَّلُ، وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ آيَةُ الْفَرْقَانِ السَّابِقَةُ. أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، لَوْلَا أُنْزِلُ هَذَا الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ عَلَى مُوسَى، فَنَزَلَتْ. وَأَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ بِلَفْظ: قَالَ الْمُشْرِكُونَ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْ قَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ. فَإِنْ قُلْتَ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ، قَوْلُ الْكُفَّارِ؟. قُلْتُ: سُكُوتُهُ تَعَالَى عَنِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ وَعُدُولِهِ إِلَى بَيَانِ حِكْمَتِهِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّتِهِ، وَلَوْ كَانَتِ الْكُتُبُ كُلُّهَا نَزَلَتْ مُفَرَّقَةً لَكَانَ يَكْفِي فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ ذَلِكَ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الْكُتُبِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى الرُّسُلِ السَّابِقَةَ، كَمَا أَجَابَ بِمِثْلِ ذَلِكَ قَوْلَهُمْ: {وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الْفُرْقَان: 7]، فَقَالَ {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لِيَأْكُلُونِ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [الْفُرْقَان: 20] وَقَوْلُهُمْ {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} [الْإِسْرَاء: 94]، فَقَالَ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} [يُوسُفَ: 109] وَقَوْلُهُمْ: كَيْفَ يَكُونُ رَسُولًا وَلَا هَمَّ لَهُ إِلَّا النِّسَاءُ؟ فَقَالَ {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَةً} [الرَّعْد: 38]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ- أَيْضًا- قَوْلُهُ تَعَالَى فِي إِنْزَالِ التَّوْرَاةِ عَلَى مُوسَى يَوْمَ الصَّعْقَة: {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}، {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} [الْأَعْرَاف: 144- 145] {وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ} [الْأَعْرَاف: 150] {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ} [الْأَعْرَاف: 154] {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [الْأَعْرَاف: 171]، فَهَذِهِ الْآيَاتُ كُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى إِتْيَانِهِ التَّوْرَاةَ جُمْلَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أُعْطِيَ مُوسَى التَّوْرَاةَ فِي سَبْعَةِ أَلْوَاحٍ مِنْ زَبَرْجَدٍ، فِيهَا تِبْيَانٌ لِكُلِّ شَيْءٍ وَمَوْعِظَةٌ، فَلَمَّا جَاءَ بِهَا فَرَأَى بَنِي إِسْرَائِيلَ عُكُوفًا عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ رَمَى بِالتَّوْرَاةِ مِنْ يَدِهِ فَتَحَطَّمَتْ، فَرَفَعَ اللَّهُ مِنْهَا سِتَّةَ أَسْبَاعٍ وَبَقِيَ مِنْهَا سُبْعٌ. وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، رَفَعَهُ قَالَ: «الْأَلْوَاحُ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى كَانَتْ مِنْ سِدْرِ الْجَنَّةِ، كَانَ طُولَ اللَّوْحِ اثْنَيْ عَشَرَ ذِرَاعًا». وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِ الْفِتُونِ- قَالَ: أَخَذَ مُوسَى الْأَلْوَاحَ بَعْدَمَا سَكَنَ عَنْهُ الْغَضَبُ فَأَمَرَهُمْ بِالَّذِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُبَلِّغَهُمْ مِنَ الْوَظَائِفِ، فَثَقُلَتْ عَلَيْهِمْ، وَأَبَوْا أَنْ يُقِرُّوا بِهَا حَتَّى نَتَقَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَبَلَ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ، وَدَنَا مِنْهُمْ حَتَّى خَافُوا أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِمْ، فَأَقَرُّوا بِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ الْحَجَّاجِ، قَالَ: جَاءَتْهُمُ التَّوْرَاةُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَكَبُرَ عَلَيْهِمْ، فَأَبَوْا أَنْ يَأْخُذُوهُ حَتَّى ظَلَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَبَلَ فَأَخَذُوهَا عِنْدَ ذَلِكَ. فَهَذِهِ آثَارٌ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ فِي إِنْزَالِ التَّوْرَاةِ جُمْلَةً. وَيُؤْخَذُ مِنِ الْأَثَرِ الْأَخِيرِ مِنْهَا حِكْمَةٌ أُخْرَى لِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ مُفَرَّقًا حُكْمُهُ، فَإِنَّهُ أَدْعَى إِلَى قَبُولِهِ إِذَا نَزَلَ عَلَى التَّدْرِيجِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ نَزَلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَإِنَّهُ كَانَ يَنْفِرُ مِنْ قَبُولِهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، لِكَثْرَةِ مَا فِيهِ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالْمَنَاهِي. وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ سُورَةٌ مِنَ الْمُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الْإِسْلَامِ نَزَلَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلُ شَيْءٍ: (لَا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ) لَقَالُوا: لَا نَدَعُ الْخَمْرَ أَبَدًا وَلَوْ نَزَلَ (لَا تَزْنُوا) لَقَالُوا: لَا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا. ثُمَّ رَأَيْتُ هَذِهِ الْحِكْمَةَ مُصَرَّحًا بِهَا فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ لِمَكِّيٍ.
الَّذِي اسْتُقْرِئَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَغَيْرِهَا: أَنَّ الْقُرْآنَ كَانَ يَنْزِلُ بِحَسْبِ الْحَاجَة: خَمْسُ آيَاتٍ وَعَشْرُ آيَاتٍ وَأَكْثَرُ وَأَقَلُّ؛ وَقَدْ صَحَّ نُزُولُ الْعَشْرِ آيَاتٍ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ جُمْلَةً، وَصَحَّ نُزُولُ عَشْرِ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ (الْمُؤْمِنُونَ) جُمْلَةً، وَصَحَّ نُزُولُ {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النِّسَاء: 95] وَحْدَهَا؛ وَهِيَ بَعْضُ آيَةٍ. وَكَذَا قَوْلُهُ {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} [التَّوْبَة: 28] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، نَزَلَتْ بَعْدَ نُزُولِ أَوَّلِ الْآيَةِ كَمَا حَرَّرْنَاهُ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ، وَذَلِكَ بَعْضُ آيَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَشْتَةَ فِي كِتَابِ الْمَصَاحِفِ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ بِمَوَاقِعِ [الْوَاقِعَة: 75] قَالَ: أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ نُجُومًا ثَلَاثَ آيَاتٍ، وَأَرْبَعَ آيَاتٍ، وَخَمْسَ آيَاتٍ. وَقَالَ النِّكْزَاوِيُّ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ: كَانَ الْقُرْآنُ يَنْزِلُ مُفَرَّقًا، الْآيَةَ وَالْآيَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ وَالْأَرْبَعَ، وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي نَضْرَةَ، قَالَ: كَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ يُعَلِّمُنَا الْقُرْآنَ خَمْسَ آيَاتٍ بِالْغَدَاةِ وَخَمْسَ آيَاتٍ بِالْعَشِيِّ، وَيُخْبِرُ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ بِالْقُرْآنِ خَمْسَ آيَاتٍ، خَمْسَ آيَاتٍ. وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي خَلْدَةَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ عُمَرَ قَالَ: تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ خَمْسَ آيَاتٍ خَمْسَ آيَاتٍ؛ فَإِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَنْزِلُ بِالْقُرْآنِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسًا خَمْسًا. وَمِنْ طَرِيقٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ خَمْسًا خَمْسًا إِلَّا سُورَةَ الْأَنْعَامِ، وَمَنْ حَفِظَ خَمْسًا خَمْسًا لَمْ يَنْسَهُ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ مَعْنَاهُ- إِنْ صَحَّ- إِلْقَاؤُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الَقَدْرَ حَتَّى يَحْفَظَهُ، ثُمَّ يُلْقِي إِلَيْهِ الْبَاقِي، لَا إِنْزَالُهُ بِهَذَا الَقَدْرِ خَاصَّةً. وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ- أَيْضًا- «عَنْ خَالِدِ بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: قَالَ لَنَا أَبُو الْعَالِيَة: تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ خَمْسَ آيَاتٍ، خَمْسَ آيَاتٍ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْخُذُهُ مِنْ جِبْرِيلَ خَمْسًا خَمْسًا».
قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي أَوَائِلِ تَفْسِيرِه: اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مُنَزَّلٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْإِنْزَال: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِظْهَارُ الْقِرَاءَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْهَمَ كَلَامَهُ جِبْرِيلَ وَهُوَ فِي السَّمَاءِ، وَهُوَ عَالٍ مِنَ الْمَكَانِ، وَعَلَّمَهُ قِرَاءَتَهُ، ثُمَّ جِبْرِيلُ أَدَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ يَهْبِطُ فِي الْمَكَانِ. وَفِي التَّنْزِيلِ طَرِيقَان: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْخَلَعَ مِنْ صُورَةِ الْبَشَرِيَّةِ إِلَى صُورَةِ الْمَلَكِيَّةِ وَأَخَذَهُ مِنْ جِبْرِيلَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَلَكَ انْخَلَعَ إِلَى الْبَشَرِيَّةِ حَتَّى يَأْخُذَهُ الرَّسُولُ مِنْهُ وَالْأَوَّلُ أَصْعَبُ الْحَالَيْنِ. انْتَهَى. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّ نُزُولَ الْقُرْآنِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَلَقَّفَهُ الْمَلَكُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى تَلَقُّفًا رُوحَانِيًّا، أَوْ يَحْفَظُهُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فَيَنْزِلُ بِهِ إِلَى الرَّسُولِ وَيُلْقِيهِ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْقُطْبُ الرَّازِيُّ فِي حَوَاشِي الْكَشَّافِ: وَالْإِنْزَالُ لُغَةً بِمَعْنَى الْإِيوَاءِ، وَبِمَعْنَى تَحْرِيكِ الشَّيْءِ مِنَ الْعُلُوِّ إِلَى أَسْفَلَ، وَكِلَاهُمَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْكَلَامِ، فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ فِي مَعْنَى مَجَازِيٍّ: فَمَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْزَالُهُ أَنْ يُوجِدَ الْكَلِمَاتِ وَالْحُرُوفَ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى وَيُثْبِتَهَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَمَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ هُوَ الْأَلْفَاظُ، فَإِنْزَالُهُ مُجَرَّدُ إِثْبَاتِهِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَهَذَا الْمَعْنَى مُنَاسِبٌ لِكَوْنِهِ مَنْقُولًا عَنِ الْمَعْنَيَيْنِ اللُّغَوِيَّيْنِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ بِإِنْزَالِهِ إِثْبَاتُهُ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا بَعْدَ الْإِثْبَاتِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِلْمَعْنَى الثَّانِي. وَالْمُرَادُ بِإِنْزَالِ الْكُتُبِ عَلَى الرُّسُل: أَنْ يَتَلَقَّفَهَا الْمَلَكُ مِنَ اللَّهِ تَلَقُّفًا رُوحَانِيًّا أَوْ يَحْفَظَهَا مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَيَنْزِلُ بِهَا فَيُلْقِيهَا عَلَيْهِمُ. انْتَهَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: فِي الْمُنَزَّلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْقُرْآنِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى، وَأَنَّ جِبْرِيلَ حَفِظَ الْقُرْآنَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَنَزَلَ بِهِ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَحْرُفَ الْقُرْآنِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، كُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا بِقَدْرِ جَبَلٍ قَافٍ، وَأَنَّ تَحْتَ كُلِّ حَرْفٍ مِنْهَا مَعَانِيَ لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا اللَّهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ جِبْرِيلَ إِنَّمَا نَزَلَ بِالْمَعَانِي خَاصَّةً وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ تِلْكَ الْمَعَانِي وَعَبَّرَ عَنْهَا بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَتَمَسَّكَ قَائِلُ هَذَا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ} [الشُّعَرَاء: 193- 194]. وَالثَّالِثُ: أَنَّ جِبْرِيلَ أَلْقَى إِلَيْهِ الْمَعْنَى، وَأَنَّهُ عَبَّرَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَأَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ يَقْرَءُونَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ إِنَّهُ نَزَلَ بِهِ كَذَلِكَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الَقَدْرِ} يُرِيدُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ-: إِنَّا أَسْمَعْنَا الْمَلَكَ وَأَفْهَمْنَاهُ إِيَّاهُ وَأَنْزَلْنَاهُ بِمَا سَمِعَ، فَيَكُونُ الْمَلَكَ مُنْتَقِلًا مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ. قَالَ أَبُو شَامَةَ: هَذَا الْمَعْنَى مُطَّرِدٌ فِي جَمِيعِ أَلْفَاظِ الْإِنْزَالِ الْمُضَافَةِ إِلَى الْقُرْآنِ أَوْ إِلَى شَيْءٍ مِنْهُ، يَحْتَاجُ إِلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ الْمُعْتَقِدُونَ قِدَمَ الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ أَنَّ جِبْرِيلَ تَلَقَّفَهُ سَمَاعًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى: مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ مَرْفُوعًا «إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ أَخَذَتِ السَّمَاءَ رَجْفَةٌ شَدِيدَةٌ مِنْ خَوْفِ اللَّهِ، فَإِذَا سَمِعَ بِذَلِكَ أَهْلُ السَّمَاءِ، صُعِقُوا وَخَرُّوا سُجَّدًا، فَيَكُونُ أَوَّلُهُمْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ جِبْرِيلُ فَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ مِنْ وَحْيِهِ بِمَا أَرَادَ فَيَنْتَهِي بِهِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، فَكُلَّمَا مَرَّ بِسَمَاءٍ، سَأَلَهُ أَهْلُهَا: مَاذَا قَالَ رَبُّنَا؟ قَالَ: الْحَقُّ. فَيَنْتَهِي بِهِ حَيْثُ أَمَرَ». وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ: «إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ صَلْصَلَةً كَصَلْصَلَةِ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفْوَانِ، فَيَفْزَعُونَ وَيَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْ أَمْرِ السُّرْعَةِ». وَأَصْلُ الْحَدِيثِ فِي الصَّحِيحِ. وَفِي تَفْسِيرِ عَلِيِّ بْنِ سَهْلٍ النَّيْسَابُورِيّ: قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاء: نَزَلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً فِي لَيْلَةِ الَقَدْرِ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى بَيْتٍ يُقَالُ لَهُ: بَيْتُ الْعِزَّةِ، فَحِفْظَهُ جِبْرِيلُ، وَغُشِيَ عَلَى أَهْلِ السَّمَاوَاتِ مِنْ هَيْبَةِ كَلَامِ اللَّهِ، فَمَرَّ بِهِمْ جِبْرِيلُ، وَقَدْ أَفَاقُوا، فَقَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: الْحَقَّ- يَعْنِي الْقُرْآنَ- وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِه: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سَبَأٍ: 23] فَأَتَى بِهِ جِبْرِيلُ إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ، فَأَمْلَاهُ عَلَى السَّفَرَةِ الْكَتَبَةِ- يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ- وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عَبَسَ: 15- 16]. وَقَالَ الْجُوَيْنِيُّ: كَلَامُ اللَّهِ الْمُنَزَّلُ قِسْمَان: قِسْمٌ قَالَ اللَّهُ لِجِبْرِيلَ: قُلْ لِلنَّبِيِّ الَّذِي أَنْتَ مُرْسَلٌ إِلَيْه: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: افْعَلْ كَذَا وَكَذَا، وَأَمَرَ بِكَذَا، فَفَهِمَ جِبْرِيلُ مَا قَالَهُ رَبُّهُ، ثُمَّ نَزَلَ عَلَى ذَلِكَ النَّبِيِّ وَقَالَ لَهُ مَا قَالَهُ رَبُّهُ، وَلَمْ تَكُنِ الْعِبَارَةُ تِلْكَ الْعِبَارَةَ، كَمَا يَقُولُ الْمَلِكُ لِمَنْ يَثِقُ بِه: قُلْ لِفُلَانٍ يَقُولُ لَكَ الْمَلِكُ: اجْتَهِدْ فِي الْخِدْمَةِ، وَاجْمَعْ جُنْدَكَ لِلْقِتَالِ. فَإِنْ قَالَ الرَّسُولُ: يَقُولُ الْمَلِكُ لَا تَتَهَاوَنْ فِي خِدْمَتِي وَلَا تَتْرُكِ الْجُنْدَ تَتَفَرَّقُ، وَحُثَّهُمْ عَلَى الْمُقَاتَلَةِ، لَا يُنْسَبُ إِلَى كَذِبٍ وَلَا تَقْصِيرٍ فِي أَدَاءِ الرِّسَالَةِ. وَقِسْمٌ آخَرُ قَالَ اللَّهُ لِجِبْرِيلَ: اقْرَأْ عَلَى النَّبِيِّ هَذَا الْكِتَابَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ. كَمَا يَكْتُبُ الْمَلِكُ كِتَابًا وَيُسَلِّمُهُ إِلَى أَمِينٍ، وَيَقُولُ: اقْرَأْهُ عَلَى فُلَانٍ، فَهُوَ لَا يُغَيِّرُ مِنْهُ كَلِمَةً وَلَا حَرْفًا. انْتَهَى. قُلْتُ: الْقُرْآنُ هُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي، وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ هُوَ السُّنَّةُ، كَمَا وَرَدَ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَنْزِلُ بِالسُّنَّةِ كَمَا يَنْزِلُ بِالْقُرْآنِ. وَمِنْ هُنَا جَازَ رِوَايَةُ السُّنَّةِ بِالْمَعْنَى; لِأَنَّ جِبْرِيلَ أَدَّاهُ بِالْمَعْنَى، وَلَمْ تَجُزِ الْقِرَاءَةُ بِالْمَعْنَى؛ لِأَنَّ جِبْرِيلَ أَدَّاهُ بِاللَّفْظِ، وَلَمْ يُبِحْ لَهُ إِيحَاءَهُ بِالْمَعْنَى. وَالسِّرُّ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّعَبُّدُ بِلَفْظِهِ وَالْإِعْجَازُ بِهِ فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بِلَفْظٍ يَقُومُ مَقَامَهُ. وَأَنَّ تَحْتَ كُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ مَعَانِيَ لَا يُحَاطُ بِهَا كَثْرَةً، فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بَدَلَهُ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ، وَالتَّخْفِيفُ عَلَى الْأُمَّةِ حَيْثُ جَعَلَ الْمُنَزَّلَ إِلَيْهِمْ عَلَى قِسْمَيْن: قِسْمٌ يَرْوُونَهُ بِلَفْظِهِ الْمُوحَى بِهِ، وَقِسْمٌ يَرْوُونَهُ بِالْمَعْنَى، وَلَوْ جُعِلَ كُلُّهُ مِمَّا يُرْوَى بِاللَّفْظِ لَشَقَّ، أَوْ بِالْمَعْنَى لَمْ يُؤْمَنِ التَّبْدِيلُ وَالتَّحْرِيفُ، فَتَأَمَّلْ. وَقَدْ رَأَيْتُ، عَنِ السَّلَفِ مَا يُعَضِّدُ كَلَامَ الْجُوَيْنِيِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ طَرِيقِ عَقِيلٍ، عَنِ الزُّهْرِيّ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْوَحْيِ، فَقَالَ: الْوَحْيُ مَا يُوحِي اللَّهُ إِلَى نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَيُثْبِتُهُ فِي قَلْبِهِ، فَيَتَكَلَّمُ بِهِ وَيَكْتُبُهُ، وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ لِلْوَحْيِ كَيْفِيَّاتٍ: إِحْدَاهَا: أَنْ يَأْتِيَهُ الْمَلَكُ فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، كَمَا فِي الصَّحِيحِ. وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: «سَأَلَتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ تُحِسُّ بِالْوَحْيِ فَقَالَ: أَسْمَعُ صَلَاصِلَ ثُمَّ أَسْكُتُ عِنْدَ ذَلِكَ فَمَا مِنْ مَرَّةٍ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا ظَنَنْتُ أَنَّ نَفْسِي تُقْبَضُ». قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَالْمُرَادُ أَنَّهُ صَوْتٌ مُتَدَارِكٌ يَسْمَعُهُ وَلَا يُثْبِتُهُ أَوَّلَ مَا يَسْمَعُهُ حَتَّى يَفْهَمَهُ بَعْدُ. وَقِيلَ: هُوَ صَوْتُ خَفْقِ أَجْنِحَةِ الْمَلَكِ. وَالْحِكْمَةُ فِي تَقَدُّمِهِ أَنْ يَفْرُغَ سَمْعُهُ لِلْوَحْيِ، فَلَا يَبْقَى فِيهِ مَكَانًا لِغَيْرِهِ. وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ أَشَدُّ حَالَاتِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يَنْزِلُ هَكَذَا إِذَا نَزَلَتْ آيَةُ وَعِيدٍ أَوْ تَهْدِيدٍ. الثَّانِيةُ: أَنْ يَنْفُثَ فِي رَوْعِهِ الْكَلَامَ نَفْثًا، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ رُوحَ الَقُدُسِ نَفَثَ فِي رَوْعِي» أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ. وَهَذَا قَدْ يَرْجِعُ إِلَى الْحَالَةِ الْأُولَى أَوِ الَّتِي بَعْدَهَا، بِأَنْ يَأْتِيَهُ فِي إِحْدَى الْكَيْفِيَّتَيْنِ وَيَنْفُثَ فِي رَوْعِهِ. الثَّالِثَةُ: أَنْ يَأْتِيَهُ فِي صُورَةِ الرَّجُلِ فَيُكَلِّمَهُ، كَمَا فِي الصَّحِيحِ «وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ». زَادَ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِه: «وَهُوَ أَهْوَنُهُ عَلَيَّ». الرَّابِعَةُ: أَنَّ يَأْتِيَهُ الْمَلَكُ فِي النَّوْمِ، وَعَدَّ مِنْ هَذَا قَوْمٌ سُورَةَ الْكَوْثَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ. الْخَامِسَةُ: أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِمَّا فِي الْيَقَظَةِ كَمَا فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ، أَوْ فِي النَّوْمِ، كَمَا فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ «أَتَانِي رَبِّي فَقَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى» الْحَدِيثَ. وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ شَيْءٌ فِيمَا أَعْلَمُ. نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُعَدَّ مِنْهُ آخِرُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لِمَا تَقَدَّمَ وَبَعْضُ سُورَةِ الضُّحَى وَأَلَمْ نَشْرَحْ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَأَلْتُ رَبِّي مَسْأَلَةً، وَدِدْتُ أَنِّي لِمْ أَكُنْ سَأَلْتُهُ قُلْتُ: أَيْ رَبِّ، اتَّخَذْتَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَكَلَّمْتَ مُوسَى تَكْلِيمًا؟ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَلَمْ أَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَيْتُ، وَضَالًّا فَهَدَيْتُ، وَعَائِلًا فَأَغْنَيْتُ، وَشَرَحْتُ لَكَ صَدْرَكَ، وَحَطَطْتُ عَنْكَ وِزْرَكَ، وَرَفَعْتُ لَكَ ذِكْرَكَ، فَلَا أُذْكَرُ إِلَّا ذُكِرْتَ مَعِي!». فَائِدَةٌ: أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي تَارِيخِهِ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النُّبُوَّةُ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَقَرَنَ بِنُبُوَّتِهِ إِسْرَافِيلَ ثَلَاثَ سِنِينَ، فَكَانَ يُعَلِّمُهُ الْكَلِمَةَ وَالشَّيْءَ، وَلَمْ يُنَزِّلْ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ عَلَى لِسَانِهِ، فَلَمَّا مَضَتْ ثَلَاثُ سِنِينَ، قَرَنَ بِنُبُوَّتِهِ جِبْرِيلَ، فَنَزَّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ عَلَى لِسَانِهِ عِشْرِينَ سَنَةً. قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَالْحِكْمَةُ فِي تَوْكِيلِ إِسْرَافِيلَ بِهِ أَنَّهُ الْمُوَكَّلُ بِالصُّورِ الَّذِي فِيهِ هَلَاكُ الْخَلْقِ وَقِيَامُ السَّاعَةِ، وَنَبُّوتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤْذِنَةٌ بِقُرْبِ السَّاعَةِ وَانْقِطَاعِ الْوَحْيِ، كَمَا وَكَّلَ بِذِي الْقَرْنَيْنِ رِيَافِيلَ الَّذِي يَطْوِي الْأَرْضَ، وَبِخَالِدِ بْنِ سِنَانٍ مَالِكَ خَازِنَ النَّارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ سَابِطٍ قَالَ: فِي أُمِّ الْكِتَابِ كُلُّ شَيْءٍ هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَوَكَّلَ ثَلَاثَةً بِحِفْظِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَوَكَّلَ جِبْرِيلَ بِالْكُتُبِ وَالْوَحْيِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَبِالنَّصْرِ عِنْدَ الْحُرُوبِ، وَبِالْمُهْلِكَاتِ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُهْلِكَ قَوْمًا، وَوَكَّلَ مِيكَائِيلَ بِالْقَطْرِ، وَالنَّبَاتِ، وَوَكَّلَ مَلَكَ الْمَوْتِ بِقَبْضِ الْأَنْفُسِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَارَضُوا بَيْنَ حِفْظِهِمْ وَبَيْنَ مَا كَانَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ فَيَجِدُونَهُ سَوَاءً. وَأَخْرَجَ- أَيْضًا- عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، قَالَ: أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ جِبْرِيلُ، لْأَنَّهُ كَانَ أَمِينَ اللَّهِ عَلَى رُسُلِهِ.
فَائِدَةٌ ثَانِيَةٌ: أَخْرَجَ الْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُنْزِلَ الْقُرْآنِ بِالتَّفْخِيمِ كَهَيْئَتِهِ {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [الْمُرْسَلَات: 6] وَ(الصَّدَفَيْنِ) وَ{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الْأَعْرَاف: 54] وَأَشْبَاهُ هَذَا». قُلْتُ: أَخْرَجَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ وَالِابْتِدَاءِ فَبَيَّنَ أَنَّ الْمَرْفُوعَ مِنْهُ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ بِالتَّفْخِيمِ فَقَطْ، وَأَنَّ الْبَاقِيَ مُدْرَجٌ مِنْ كَلَامِ عَمَّارِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، أَحَدِ رُوَاةِ الْحَدِيثِ.
فَائِدَةٌ أُخْرَى: أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، قَالَ: لَمْ يَنْزِلْ وَحْيٌ إِلَّا بِالْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ تَرْجَمَ كُلُّ نَبِيٍّ لِقَوْمِهِ.
فَائِدَةٌ أُخْرَى: أَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ يَغُطُّ فِي رَأْسِهِ، وَيَتَرَبَّدُ وَجْهُهُ، أَيْ: يَتَغَيَّرُ لَوْنُهُ بِالْجَرِيدَةِ وَيَجِدُ بَرْدًا فِي ثَنَايَاهُ، وَيَعْرَقُ حَتَّى يَتَحَدَّرَ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ».
قُلْتُ: وَرَدَ حَدِيثُ نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ مِنْ رِوَايَةِ جَمْعٍ مِنَ الصَّحَابَة: أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأَنَسٍ وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ وَسَلْمَانَ بْنِ صُرَدٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَمْرِو بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَهِشَامِ بْنِ حَكِيمٍ وَأَبِي بَكْرَةَ وَأَبِي جَهْمٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي أَيُّوبَ. فَهَؤُلَاءِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ صَحَابِيًّا، وَقَدْ نَصَّ أَبُو عُبَيْدٍ عَلَى تَوَاتُرِهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِه: أَنَّ عُثْمَانَ قَالَ عَلَى الْمِنْبَر: أَذْكَرَ اللَّهُ رَجُلًا، سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، كُلُّهَا شَافٍ كَافٍ لَمَّا قَامَ، فَقَامُوا حَتَّى لَمْ يُحْصَوْا، فَشَهِدُوا بِذَلِكَ، فَقَالَ: وَأَنَا أَشْهَدُ مَعَهُمْ. وَسَأَسُوقُ مِنْ رُوَاتِهِمْ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَأَقُولُ: اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى نَحْو: أَرْبَعِينَ قَوْلًا: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مِنِ الْمُشْكِلِ الَّذِي لَا يُدْرَى مَعْنَاهُ؛ لْأَنَّ الْحَرْفَ يَصْدُقُ لُغَةً عَلَى حَرْفِ الْهِجَاءِ، وَعَلَى الْكَلِمَةِ، وَعَلَى الْمَعْنَى، وَعَلَى الْجِهَةِ. قَالَهُ ابْنُ سَعْدَانَ النَّحْوِيُّ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالسَّبْعَةِ حَقِيقَةَ الْعَدَدِ، بَلِ الْمُرَادُ التَّيْسِيرُ وَالتَّسْهِيلُ وَالسَّعَةُ، وَلَفْظُ السَّبْعَةِ يُطْلَقُ عَلَى إِرَادَةِ الْكَثْرَةِ فِي الْآحَادِ، كَمَا يُطْلَقُ السَّبْعُونَ فِي الْعَشَرَاتِ وَالسَّبْعُمِائَةِ فِي الْمِئِينَ، وَلَا يُرَادُ الْعَدَدُ الْمُعَيَّنُ. وَإِلَى هَذَا جَنَحَ عِيَاضُ وَمَنْ تَبِعَهُ. وَيَرُدُّهُ مَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ، فَرَاجَعْتُهُ فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ وَيَزِيدُنِي حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ». وَفِي حَدِيثِ أُبَيٍّ عِنْدَ مُسْلِم: «إِنَّ رَبِّي أَرْسَلَ إِلَيَّ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ. فَرَدَدْتُ إِلَيْه: أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي، فَأَرْسَلَ إِلَيَّ أَنْ أَقْرَأَ عَلَى حَرْفَيْنِ. فَرَدَدْتُ إِلَيْه: أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي، فَأَرْسَلَ إِلَيَّ: أَنِ اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ». وَفِي لَفْظٍ عَنْهُ عِنْدَ النَّسَائِيّ: «إِنَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ أَتَيَانِي، فَقَعَدَ جِبْرِيلُ عَنْ يَمِينِي، وَمِيكَائِيلَ عَنْ يَسَارِي؛ فَقَالَ جِبْرِيلُ: اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ، فَقَالَ مِيكَائِيلُ: اسْتَزِدْهُ... حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ». وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ اقْرَأْهُ، فَنَظَرْتُ إِلَى مِيكَائِيلَ، فَسَكَتَ. فَعَلِمْتُ أَنَّهُ قَدِ انْتَهَتِ الْعِدَّةُ». فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ حَقِيقَةِ الْعَدَدِ وَانْحِصَارِهِ فَى نُزُولِ الْقُرْآنِ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا سَبْعُ قِرَاءَاتٍ، وَتُعُقِّبَ: بِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ كَلِمَةٌ تُقْرَأُ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ إِلَّا الْقَلِيلَ مِثْلَ: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [الْمَائِدَة: 60] {فُلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الْإِسْرَاء: 23]. الرَّابِعُ: وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ تُقْرَأُ بِوَجْهٍ أَوْ وَجْهَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَكْثَرَ إِلَى سَبْعَةٍ، وَيُشْكِلُ عَلَى هَذَا أَنَّ فِي الْكَلِمَاتِ مَا قُرِئَ عَلَى أَكْثَرَ، وَهَذَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا رَابِعًا. الْخَامِسُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْأَوْجُهُ الَّتِي يَقَعُ بِهَا التَّغَايُرُ، ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ قَالَ: فَأَوَّلُهَا: مَا يَتَغَيَّرُ حَرَكَتُهُ وَلَا يَزُولُ مَعْنَاهُ وَلَا صُورَتُهُ مِثْلَ: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ} [الْبَقَرَة: 282] بِالْفَتْحِ وَالرَّفْعِ. وَثَانِيهَا: مَا يَتَغَيَّرُ بِالْفِعْلِ مِثْلُ (بَاعَدَ) وَبَاعِدْ [سَبَأٍ: 19] بِلَفْظِ الْمَاضِي وَالطَّلَبِ. وَثَالِثُهَا: مَا يَتَغَيَّرُ بِالنَّقْطِ، مِثْلَ نُنْشِزُهَا [الْبَقَرَة: 259] (وَنُنْشِرُهَا). وَرَابِعُهَا: مَا يَتَغَيَّرُ بِإِبْدَالِ حَرْفٍ قَرِيبِ الْمَخْرَجِ، مِثْلُ {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الْوَاقِعَة: 29] وَ(طَلْعٍ). وَخَامِسُهَا: مَا يَتَغَيَّرُ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، مِثْلُ {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} وَ(سَكْرَةُ الْحَقِّ بِالْمَوْتِ). وَسَادِسُهَا: مَا يَتَغَيَّرُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ مِثْلَ {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [اللَّيْل: 3] (وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى). وَسَابِعُهَا: مَا يَتَغَيَّرُ بِإِبْدَالِ كَلِمَةٍ بِأُخْرَى، مِثْلُ {كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} وَ(كَالصُّوفِ الْمَنْفُوشِ). وَتَعَقَّبَ هَذَا قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ، بِأَنَّ الرُّخْصَةَ وَقَعَتْ، وَأَكْثَرُهُمْ يَوْمَئِذٍ لَا يَكْتُبُ وَلَا يَعْرِفُ الرَّسْمَ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَعْرِفُونَ الْحُرُوفَ وَمَخَارِجَهَا. وَأُجِيبُ: بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَوْهِينُ مَا قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ؛ لَاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الَانْحِصَارُ الْمَذْكُورُ فِي ذَلِكَ وَقَعَ اتِّفَاقًا، وَإِنَّمَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ بِالِاسْتِقْرَاءِ. [السَّادِسُ]: وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِّيُّ فِي اللَّوَائِح: الْكَلَامُ لَا يَخْرُجُ عَنْ سَبْعَةِ أَوْجُهٍ فِي الِاخْتِلَاف: الْأَوَّلُ: اخْتِلَافُ الْأَسْمَاءِ مِنْ إِفْرَادٍ وَتَثْنِيَةٍ وَجَمْعٍ، وَتَذْكِيرٍ وَتَأْنِيثٍ. وَالثَّانِي: اخْتِلَافُ تَصْرِيفِ الْأَفْعَالِ مِنْ مَاضٍ وَمُضَارِعٍ وَأَمْرٍ. الثَّالِثُ: وُجُوهُ الْإِعْرَابِ. الرَّابِعُ: النَّقْصُ وَالزِّيَادَةُ. الْخَامِسُ: التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ. السَّادِسُ: الْإِبْدَالُ. السَّابِعُ: اخْتِلَافُ اللُّغَاتِ كَالْفَتْحِ وَالْإِمَالَةِ وَالتَّرْقِيقِ وَالتَّفْخِيمِ وَالْإِدْغَامِ وَالْإِظْهَارِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ السَّادِسُ. [السَّابِعُ]: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِهَا كَيْفِيَّةُ النُّطْقِ بِالتِّلَاوَةِ مِنْ إِدْغَامٍ وَإِظْهَارٍ، وَتَفْخِيمٍ، وَتَرْقِيقٍ، وَإِمَالَةٍ، وَإِشْبَاعٍ، وَمَدٍّ، وَقَصْرٍ، وَتَشْدِيدٍ، وَتَخْفِيفٍ، وَتَلْيِينٍ. وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ السَّابِعُ. [الثَّامِنُ]: وَقَالَ ابْنُ الْجَزَرِيّ: قَدْ تَتَبَّعْتُ صَحِيحَ الْقِرَاءَاتِ وَشَاذَّهَا وَضَعِيفَهَا وَمُنْكَرَهَا، فَإِذَا هِيَ يَرْجِعُ اخْتِلَافُهَا إِلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ، لَا يَخْرُجُ عَنْهَا. وَذَلِكَ: إِمَّا فِي الْحَرَكَاتِ بِلَا تَغَيُّرٍ فِي الْمَعْنَى وَالصُّورَةِ نَحْوُ: بِالْبُخْلِ [النِّسَاء: 37] بِأَرْبَعَةٍ وَيُحْسَبُ بِوَجْهَيْنِ. أَوْ مُتَغَيِّرٌ فِي الْمَعْنَى فَقَطْ: نَحْوَ: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [الْبَقَرَة: 37]. وَإِمَّا فِي الْحُرُوفِ بِتَغَيُّرِ الْمَعْنَى لَا الصُّورَة: نَحْوُ: تَبْلُو [يُونُسَ: 30] وَ(تَتْلُو). أَوْ عَكْسُ ذَلِكَ نَحْوُ: (الصِّرَاطَ) وَ(السِّرَاطَ). أَوْ بِتَغَيُّرِهِمَا: نَحْوُ: (وَامْضُوا) [الْحِجْر: 65] وَ(اسْعَوْا). وَإِمَّا فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِير: نَحْوُ: فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ [التَّوْبَة: 111]. أَوْ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ نَحْوُ: وَصَّى وَ(أَوْصَى). فَهَذِهِ سَبْعَةٌ لَا يَخْرُجُ الَاخْتِلَافُ عَنْهَا. قَالَ: وَأَمَّا نَحْوُ اخْتِلَافِ الْإِظْهَارِ وَالْإِدْغَامِ وَالرَّوْمِ وَالْإِشْمَامِ وَالتَّخْفِيفِ وَالتَّسْهِيلِ وَالنَّقْلِ وَالْإِبْدَالِ، فَهَذَا لَيْسَ مِنْ الِاخْتِلَافِ الَّذِي يَتَنَوَّعُ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى; لْأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْمُتَنَوِّعَةَ فِي أَدَائِهِ لَا تُخْرِجُهُ، عَنْ أَنْ يَكُونَ لَفْظًا وَاحِدًا. انْتَهَى. وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الثَّامِنُ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِير: قِرَاءَةُ الْجُمْهُور: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غَافِرٍ: 35] وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ (عَلَى قَلْبِ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ). التَّاسِعُ: أَنَّ الْمُرَادَ سَبْعَةُ أَوْجُهٍ مِنَ الْمَعَانِي الْمُتَّفِقَةِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، نَحْوَ: أَقْبِلْ وَتَعَالَ وَهَلُمَّ وَعَجِّلْ، وَأَسْرِعْ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ وَهْبٍ، وَخَلَائِقُ. وَنَسَبَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لِأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. وَيَدُلُّ لَهُ: مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ «أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ قَالَ مِيكَائِيلُ: اسْتَزِدْهُ حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ قَالَ: كُلُّ شَافٍ كَافٍ مَا لَمْ تُخْلَطْ آيَةُ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ أَوْ رَحْمَةٌ بِعَذَابٍ» نَحْوُ قَوْلِكَ: تَعَالَ وَأَقْبِلْ وَهَلُمَّ وَاذْهَبْ وَأَسْرِعْ وَعَجِّلْ. هَذَا اللَّفْظُ رِوَايَةُ أَحْمَدَ، وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ- أَيْضًا- عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ. وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ أُبَيٍّ قُلْتُ: سَمِيعًا عَلِيمًا عَزِيزًا حَكِيمًا، مَا لَمْ تُخْلَطْ آيَةُ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ أَوْ رَحْمَةٍ بِعَذَابٍ. وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ عَلِيمًا حَكِيمًا غَفُورًا رَحِيمًا». وَعِنْدَهُ- أَيْضًا- مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ: أَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ صَوَابٌ مَا لَمْ تَجْعَلْ مَغْفِرَةً عَذَابًا، أَوْ عَذَابًا مَغْفِرَةً أَسَانِيدُهَا جِيَادٌ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرّ: إِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا ضَرْبَ الْمَثَلِ لِلْحُرُوفِ الَّتِي نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا: أَنَّهَا مَعَانٍ مُتَّفِقٌ مَفْهُومُهَا، مُخْتَلِفٌ مَسْمُوعُهَا، لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مَعْنًى وَضِدُّهُ، وَلَا وَجْهٌ يُخَالِفُ مَعْنَى وَجْهٍ خِلَافًا يَنْفِيهِ وَيُضَادُّهُ، كَالرَّحْمَةِ الَّتِي هِيَ خِلَافُ الْعَذَابِ وَضِدُّهُ. ثُمَّ أَسْنَدَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} [الْبَقَرَة: 20] (مَرُّوا فِيهِ)، (سَعَوْا فِيهِ). وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقْرَأُ: {لِلَّذِينِ آمَنُوا انْظُرُونَا} [الْحَدِيد: 13] أَمْهِلُونَا: أَخِّرُونَا. قَالَ الطَّحَّاوِيُّ: وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ رُخْصَةً، لِمَا كَانَ يَتَعَسَّرُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمُ التِّلَاوَةُ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِالْكِتَابَةِ وَالضَّبْطِ وَإِتْقَانِ الْحِفْظِ، ثُمَّ نُسِخَ بِزَوَالِ الْعُذْرِ وَتَيَسُّرِ الْكِتَابَةِ وَالْحِفْظِ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَالْبَاقِلَّانِيُّ وَآخَرُونَ. وَفِي فَضَائِلِ أَبِي عُبَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّه: أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَقْرَأَ رَجُلًا: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدُّخَّان: 43- 44]، فَقَالَ الرَّجُلُ: طَعَامُ الْيَتِيمِ، فَرَدَّهَا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَسْتَقِمْ بِهَا لِسَانُهُ. فَقَالَ: أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَقُولَ: طَعَامُ الْفَاجِرِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَافْعَلْ. الْعَاشِرُ: أَنَّ الْمُرَادَ سَبْعُ لُغَاتٍ: وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو عُبَيْدٍ وَثَعْلَبُ الْأَزْهَرِيُّ وَآخَرُونَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَصَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ. وَتُعُقِّبَ: بِأَنَّ لُغَاتِ الْعَرَبِ أَكْثَرُ مِنْ سَبْعَةٍ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْمُرَادَ أَفْصَحُهَا، فَجَاءَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنِ عَلَى سَبْعِ لُغَاتٍ؛ مِنْهَا خَمْسٌ بِلُغَةِ الْعَجُزِ مِنْ هَوَازِنَ. قَالَ: وَالْعَجُزُ: سَعْدُ بْنُ بَكْرٍ، وَجُشَمُ بْنُ بَكْرٍ، وَنَصْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَثَقِيفٌ؛ وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مِنْ هَوَازِنَ. وَيُقَالُ لَهُمْ: عُلْيَا هَوَازِنَ. وَلِهَذَا قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاء: أَفْصَحُ الْعَرَبِ عُلْيَا هَوَازِنَ، وَسُفْلَى تَمِيمٍ، يَعْنِي: بَنِي دَارِمٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنِ بِلُغَةِ الْكَعْبِيِّينَ: كَعْبِ قُرَيْشٍ وَكَعْبِ خُزَاعَةَ. قِيلَ: وَكَيْفَ ذَاكَ؟ قَالَ: ; لْأَنَّ الدَّارَ وَاحِدَةٌ. يَعْنِي: أَنَّ خُزَاعَةَ كَانُوا جِيرَانَ قُرَيْشٍ، فَسَهُلَتْ عَلَيْهِمْ لُغَتُهُمْ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ: نَزَلَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ وَهُذَيْلٍ وَتَمِيمٍ وَالْأَزْدِ وَرَبِيعَةَ وَهَوَازِنَ وَسَعْدِ بْنِ بَكْرٍ. وَاسْتَنْكَرَ ذَلِكَ ابْنُ قُتَيْبَةَ، وَقَالَ: لَمْ يَنْزِلِ الْقُرْآنُ إِلَّا بِلُغَةِ قُرَيْشٍ. وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إِبْرَاهِيمَ: 4]. فَعَلَى هَذَا تَكُونُ اللُّغَاتُ السَّبْعُ فِي بُطُونِ قُرَيْشٍ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ أَبُو عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيُّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ تُقْرَأُ عَلَى سَبْعِ لُغَاتٍ، بَلِ اللُّغَاتُ السَّبْعُ مُفَرَّقَةٌ فِيهِ، فَبَعْضُهُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ، وَبَعْضُهُ بِلُغَةِ هُذَيْلٍ، وَبَعْضُهُ بِلُغَةِ هَوَازِنَ، وَبَعْضُهُ بِلُغَةِ الْيَمَنِ وَغَيْرِهِمْ. قَالَ: وَبَعْضُ اللُّغَاتِ أَسْعَدُ بِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَأَكْثَرُ نَصِيبًا. وَقِيلَ: نَزَلَ بِلُغَةِ مُضَرَ خَاصَّةً، لِقَوْلِ عُمَرَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَةِ مُضَرَ. وَعَيَّنَ بَعْضُهُمْ- فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ- السَّبْعَ مِنْ مُضَرَ: أَنَّهُمْ هُذَيْلٌ، وَكِنَانَةُ، وَقَيْسٌ، وَضَبَّةُ، وَتَيْمُ الرِّبَابِ وَأَسَدُ بْنُ خُزَيْمَةَ، وَقُرَيْشٌ؛ فَهَذِهِ قَبَائِلُ مُضَرَ تَسْتَوْعِبُ سَبْعَ لُغَاتٍ. وَنَقَلَ أَبُو شَامَةَ عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ أَنَّهُ قَالَ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ أَوَّلًا بِلِسَانِ قُرَيْشٍ وَمَنْ جَاوَرَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ الْفُصَحَاءِ، ثُمَّ أُبِيحَ لِلْعَرَبِ أَنْ يَقْرَءُوهُ بِلُغَاتِهِمُ الَّتِي جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِاسْتِعْمَالِهَا، عَنِ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْأَلْفَاظِ وَالْإِعْرَابِ. وَلَمْ يُكَلِّفْ أَحَدًا مِنْهُمْ الِانْتِقَالُ عَنْ لُغَتِهِ إِلَى لُغَةٍ أُخْرَى لِلْمَشَقَّةِ، وَلِمَا كَانَ فِيهِمْ مِنَ الْحَمِيَّةِ، وَلِطَلَبِ تَسْهِيلِ فَهْمِ الْمُرَادِ. وَزَادَ غَيْرُهُ: أَنَّ الْإِبَاحَةَ الْمَذْكُورَةَ لَمْ تَقَعْ بِالتَّشَهِّي، بِأَنْ يُغَيِّرَ كُلُّ أَحَدٍ الْكَلِمَةَ بِمُرَادِفِهَا فِي لُغَتِهِ، بَلِ الْمَرْعِيُّ فِي ذَلِكَ السَّمَاعُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ هَذَا: بِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَلْفِظُ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ سَبْعَ مَرَّاتٍ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ يَلْزَمُ هَذَا لَوِ اجْتَمَعَتِ الْأَحْرُفُ السَّبْعَةُ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ، وَنَحْنُ قُلْنَا: كَانَ جِبْرِيلُ يَأْتِي فِي كُلِّ عَرْضَةٍ بِحَرْفٍ، إِلَى أَنْ تَمَّتْ سَبْعَةً. وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ رَدَّ الْقَوْلُ بِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ، كِلَاهُمَا قُرَشِيٌّ مِنْ لُغَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَدِ اخْتَلَفَتْ قِرَاءَتُهُمَا، وَمُحَالٌ أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِ عُمَرُ لُغَتَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ غَيْرُ اللُّغَاتِ. الْقَوْلُ الْحَادِي عَشَرَ: أَنَّ الْمُرَادَ سَبْعَةُ أَصْنَافٍ. وَالْأَحَادِيثُ السَّابِقَةُ تَرُدُّهُ، وَالْقَائِلُونَ بِهِ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِ السَّبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَقِيلَ: أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَحَلَالٌ وَحَرَامٌ، وَمُحْكَمٌ وَمُتَشَابِهٌ، وَأَمْثَالٌ. وَاحْتَجُّوا بِمَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَ الْكِتَابُ الْأَوَّلُ يَنْزِلُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ مِنْ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ، عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ: زَاجِرٌ وَآمِرٌ، وَحَلَالٌ وَحَرَامٌ، وَمُحْكَمٌ وَمُتَشَابِهٌ، وَأَمْثَالٌ» الْحَدِيثَ. وَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ قَوْمٌ: بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي الْأَحَادِيثِ الْأُخْرَى؛ لْأَنَّ سِيَاقَ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ يَأْبَى حَمْلَهَا عَلَى هَذَا، بَلْ فِي ظَاهِرِهِ فِي أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْكَلِمَةَ تُقْرَأُ عَلَى وَجْهَيْنِ وَثَلَاثَةٍ إِلَى سَبْعَةٍ؛ تَيْسِيرًا وَتَهْوِينًا، وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ حَلَالًا وَحَرَامًا فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الْمُرَادُ بِالسَّبْعَةِ الْأَحْرُفِ هُنَا الْأَنْوَاعُ الَّتِي نَزَلَ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ، وَالْمُرَادُ بِهَا فِي تِلْكَ الْأَحَادِيثِ اللُّغَاتُ الَّتِي يُقْرَأُ بِهَا. وَقَالَ غَيْرُهُ: مِنْ أَوَّلِ السَّبْعَةِ الْأَحْرُفِ بِهَذَا، فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لْأَنَّهُ مُحَالٌ أَنْ يَكُونَ الْحَرْفُ مِنْهَا حَرَامًا لَا مَا سِوَاهُ وَحَلَالًا مَا سِوَاهُ، وَلْأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ يُقْرَأُ عَلَى أَنَّهُ حَلَالٌ كُلُّهُ أَوْ حَرَامٌ كُلُّهُ، أَوْ أَمْثَالٌ كُلُّهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ؛ لْأَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ التَّوْسِعَةَ لَمْ تَقَعْ فِي تَحْرِيمِ حَلَالٍ، وَلَا تَحْلِيلِ حَرَامٍ، وَلَا فِي تَغْيِيرِ شَيْءٍ مِنَ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ، لْأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَارَ إِلَى جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْحُرُوفِ وَإِبْدَالِ حَرْفٍ بِحَرْفٍ فَى السَّبْعَةِ أَحْرُفٍ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ إِبْدَالِ آيَةِ أَمْثَالٍ بِآيَةِ أَحْكَامٍ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيُّ وَأَبُو الْعَلَاءِ وَالْهَمَذَانِيُّ: قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ زَاجِرٌ وَآمِرٌ إِلَى إِلَخْ. اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ آخَرَ، أَيْ: هُوَ زَاجِرٌ، أَيِ الْقُرْآنُ، وَلَمْ يُرَدْ بِهِ تَفْسِيرُ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ، وَإِنَّمَا تَوَهَّمَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الَاتِّفَاقِ فِي الْعَدَدِ. وَيُؤَيِّدُهُ: أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ زَجْرًا وَأَمْرًا بِالنَّصْبِ، أَيْ نَزَلَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فِي الْأَبْوَابِ السَّبْعَةِ. وَقَالَ أَبُو شَامَةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّفْسِيرُ الْمَذْكُورُ لِلْأَبْوَابِ لَا لِلْأَحْرُف: أَيْ هِيَ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْكَلَامِ وَأَقْسَامِهِ، أَيْ: أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ، لَمْ يَقْتَصِرْ مِنْهَا عَلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ كَغَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ. [الثَّانِي عَشَرَ]: وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ، وَالْعَامُّ وَالْخَاصُّ، وَالنَّصُّ وَالْمُئَوَّلُ، وَالنَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ، وَالْمُجْمَلُ وَالْمُفَسَّرُ، وَالَاسْتِثْنَاءُ وَأَقْسَامُهُ. حَكَاهُ شَيْذَلَةُ عَنِ الْفُقَهَاءِ. وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي عَشَرَ. [الثَّالِثَ عَشَرَ]: وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا الْحَذْفُ وَالصِّلَةُ، وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ، وَالَاسْتِعَارَةُ وَالتَّكْرَارُ، وَالْكِنَايَةُ وَالْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ، وَالْمُجْمَلُ وَالْمُفَسَّرُ، وَالظَّاهِرُ وَالْغَرِيبُ. حَكَاهُ، عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ عَشَرَ. [الرَّابِعَ عَشَرَ]: وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ، وَالشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ، وَالتَّصْرِيفُ وَالْإِعْرَابُ، وَالْأَقْسَامُ وَجَوَابُهَا، وَالْجَمْعُ وَالْإِفْرَادُ، وَالتَّصْغِيرُ وَالتَّعْظِيمُ، وَاخْتِلَافُ الْأَدَوَاتِ. حَكَاهُ عَنِ النُّحَاةِ. وَهَذَا هُوَ الرَّابِعَ عَشَرَ. [الْخَامِسَ عَشَرَ]: وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا سَبْعَةُ أَنْوَاعٍ مِنَ الْمُعَامَلَات: الزُّهْدُ وَالْقَنَاعَةُ مَعَ الْيَقِينِ وَالْجَزْمِ، وَالْخِدْمَةُ مَعَ الْحَيَاءِ وَالْكَرَمِ، وَالْفُتُوَّةُ مَعَ الْفَقْرِ وَالْمُجَاهَدَةِ، وَالْمُرَاقَبَةُ مَعَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَالتَّضَرُّعِ وَالِاسْتِغْفَارُ مَعَ الرِّضَا وَالشُّكْرِ، وَالصَّبْرُ مَعَ الْمُحَاسَبَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَالشَّوْقُ مَعَ الْمُشَاهَدَةِ. حَكَاهُ عَنِ الصُّوفِيَّةِ. وَهَذَا هُوَ الْخَامِسَ عَشَرَ. الْقَوْلُ السَّادِسَ عَشَرَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا سَبْعَةُ عُلُومٍ: عِلْمُ الْإِنْشَاءِ وَالْإِيجَادِ، وَعِلْمُ التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ، وَعِلْمُ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَعَلَمُ صِفَاتِ الْفِعْلِ، وَعِلْمُ الْعَفْوِ وَالْعَذَابِ، وَعَلَمُ الْحَشْرِ وَالْحِسَابِ، وَعَلَمُ النُّبُوَّاتِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ حِبَّانَ: أَنَّهُ بَلَغَ الَاخْتِلَافُ فِي الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ إِلَى خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ قَوْلًا، وَلَمْ يَذْكُرِ الْقُرْطُبِيُّ مِنْهَا سِوَى خَمْسَةٍ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى كَلَامِ ابْنِ حَبَّانِ فِي هَذَا، بَعْدَ تَتَبُّعِي مَظَانَّهُ. قُلْتُ: قَدْ حَكَاهُ ابْنُ النَّقِيبِ فِي مُقَدِّمَةِ تَفْسِيرِهِ عَنْهُ بِوَاسِطَةِ الشَّرَفِ الْمُزَنِيِّ الْمُرْسِيِّ، فَقَالَ: قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ فَى نُزُولِ الْقُرْآنِ عَلَى خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ قَوْلًا. فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ زَجْرٌ وَأَمْرٌ، وَحَلَالٌ وَحَرَامٌ، وَمُحْكَمٌ وَمُتَشَابِهٌ، وَأَمْثَالٌ. الثَّانِي: حَلَالٌ وَحَرَامٌ، وَأَمْرٌ وَنَهْيٌ وَزَجْرٌ، وَخَبَرُ مَا هُوَ كَائِنٌ بَعْدُ، وَأَمْثَالٌ. الثَّالِثُ: وَعْدٌ وَوَعِيدٌ، وَحَلَالٌ وَحَرَامٌ، وَمَوَاعِظُ وَأَمْثَالٌ، وَاحْتِجَاجٌ. الرَّابِعُ: أَمْرٌ وَنَهْيٌ، وَبِشَارَةٌ وَنِذَارَةٌ، وَأَخْبَارٌ، وَأَمْثَالٌ. الْخَامِسُ: مُحْكَمٌ وَمُتَشَابِهٌ، وَنَاسِخٌ وَمَنْسُوخٌ، وَخُصُوصٌ وَعُمُومٌ، وَقَصَصٌ. السَّادِسُ: أَمْرٌ وَزَجْرٌ، وَتَرْغِيبٌ وَتَرْهِيبٌ، وَجَدَلٌ وَقَصَصٌ، وَمَثَلٌ. السَّابِعُ: أَمْرٌ وَنَهْيٌ، وَحَدٌّ وَعِلْمٌ، وَسَرٌّ، وَظَهْرٌ وَبَطْنٌ. الثَّامِنُ: نَاسِخٌ وَمَنْسُوخٌ، وَوَعْدٌ وَوَعِيدٌ، وَرُغْمٌ وَتَأْدِيبٌ، وَإِنْذَارٌ. التَّاسِعُ: حَلَالٌ وَحَرَامٌ، وَافْتِتَاحٌ وَأَخْبَارٌ، وَفَضَائِلُ، وَعُقُوبَاتٌ. الْعَاشِرُ: أَوَامِرُ وَزَوَاجِرُ، وَأَمْثَالٌ، وَأَنْبَاءٌ، وَعَتَبٌ وَوَعْظٌ، وَقَصَصٌ. الْحَادِي عَشَرَ: حَلَالٌ وَحَرَامٌ، وَأَمْثَالٌ، وَمَنْصُوصٌ، وَقَصَصٌ، وَإِبَاحَاتٌ. الثَّانِي عَشَرَ: ظَهْرٌ وَبَطْنٌ، وَفَرْضٌ وَنَدْبٌ، وَخُصُوصٌ وَعُمُومٌ، وَأَمْثَالٌ. الثَّالِثَ عَشَرَ: أَمْرٌ وَنَهْيٌ، وَوَعْدٌ وَوَعِيدٌ، وَإِبَاحَةٌ، وَإِرْشَادٌ، وَاعْتِبَارٌ. الرَّابِعَ عَشَرَ: مُقَدَّمٌ وَمُؤَخَّرٌ، وَفَرَائِضُ وَحُدُودٌ، وَمَوَاعِظَ، وَمُتَشَابِهٌ، وَأَمْثَالٌ. الْخَامِسَ عَشَرَ: مُفَسَّرٌ وَمُجْمَلٌ، وَمَقْضِيٌّ وَنَدْبٌ وَحَتْمٌ، وَأَمْثَالٌ. السَّادِسَ عَشَرَ: أَمْرُ حَتْمٍ، وَأَمَرُ نَدْبٍ، وَنَهْيُ حَتْمٍ، وَنَهْيُ نَدْبٍ، وَأَخْبَارٌ، وَإِبَاحَاتٌ. السَّابِعَ عَشَرَ: أَمْرُ فَرْضٍ، وَنَهْيُ حَتْمٍ، وَأَمْرُ نَدْبٍ، وَنَهْيُ مُرْشِدٍ، وَوَعْدٌ، وَوَعِيدٌ، وَقَصَصٌ. الثَّامِنَ عَشَرَ: سَبْعُ جِهَاتٍ لَا يَتَعَدَّاهَا الْكَلَامُ فَى مَعْنَى إِنْزَالِ الْقُرْآن: لَفْظٌ خَاصٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ، وَلُفِظٌ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْعَامٌّ، وَلَفْظٌ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ، وَلَفْظٌ خَاصٌّ أُرِيدَ بِهِ الْعَامُّ، وَلَفْظٌ يُسْتَغْنَى بِتَنْزِيلِهِ عَنْ تَأْوِيلِهِ، وَلَفْظٌ لَا يَعْلَمُ فِقْهَهُ إِلَّا الْعُلَمَاءُ، وَلَفْظٌ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ إِلَّا الرَّاسِخُونَ. التَّاسِعَ عَشَرَ: إِظْهَارُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَإِثْبَاتُ الْوَحْدَانِيَّةِ، وَتَعْظِيمُ الْأُلُوهِيَّةِ، وَالتَّعَبُّدُ لِلَّهِ، وَمُجَانَبَةُ الْإِشْرَاكِ، وَالتَّرْغِيبُ فِي الثَّوَابِ، وَالتَّرْهِيبُ مِنَ الْعِقَابِ. الْعِشْرُونَ: سَبْعُ لُغَاتٍ، مِنْهَا خَمْسٌ مِنْ هَوَازِنَ، وَاثْنَتَانِ لِسَائِرِ الْعَرَبِ. الْحَادِيَ وَالْعِشْرُونَ: سَبْعُ لُغَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ لِجَمِيعِ الْعَرَبِ، كُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا لِقَبِيلَةٍ مَشْهُورَةٍ. الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: سَبْعُ لُغَاتٍ، أَرْبَعٌ لِعَجُزِ هَوَازِنَ: سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، وَجُشَمِ بْنِ بَكْرٍ، وَنَصْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَثَلَاثٌ لِقُرَيْشٍ. الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: سَبْعُ لُغَاتٍ: لُغَةُ قُرَيْشٍ، وَلُغَةٌ لِلْيَمَنِ، وَلُغَةٌ لَجُرْهُمَ، وَلُغَةٌ لِهَوَازِنَ، وَلُغَةٌ لِقُضَاعَةَ، وَلُغَةٌ لِتَمِيمٍ، وَلُغَةٌ لِطَيِّئٍ. الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: لُغَةُ الْكَعْبِيِّينَ: كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو، وَكَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَلَهُمَا سَبْعُ لُغَاتٍ. الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: اللُّغَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ لِأَحْيَاءِ الْعَرَبِ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، مِثْلُ: هَلُمَّ، وَهَاتِ، وَتَعَالَ، وَأَقْبِلْ. السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: سَبْعُ قِرَاءَاتٍ لِسَبْعَةٍ مِنَ الصَّحَابَة: أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: هَمْزٌ، وَإِمَالَةٌ، وَفَتْحٌ، وَكَسْرٌ، وَتَفْخِيمٌ، وَمَدٌّ، وَقَصْرٌ. الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: تَصْرِيفٌ، وَمَصَادِرُ، وَعَرُوضٌ، وَغَرِيبٌ، وَسَجْعٌ، وَلُغَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ كُلُّهَا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ. التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ تُعْرَبُ بِسَبْعَةِ أَوْجُهٍ، حَتَّى يَكُونَ الْمَعْنَى وَاحِدًا وَإِنِ اخْتَلَفَ اللَّفْظُ فِيهَا. الثَّلَاثُونَ: أُمَّهَاتُ الْهِجَاء: الْأَلِفُ، وَالْبَاءُ، وَالْجِيمُ، وَالدَّالُ، وَالرَّاءُ، وَالسِّينُ، وَالْعَيْنُ؛ لْأَنَّ عَلَيْهَا تَدُورُ جَوَامِعُ كَلَامِ الْعَرَبِ. الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّهَا فِي أَسْمَاءِ الرَّبِّ مِثْلُ الْغَفُورِ الرَّحِيمِ، السَّمِيعِ الْبَصِيرِ، الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ. الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: هِيَ آيَةٌ فِي صِفَاتِ الذَّاتِ، وَآيَةٌ تَفْسِيرُهَا فِي آيَةٍ أُخْرَى، وَآيَةٌ بَيَانُهَا فِي السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَآيَةٌ فِي قِصَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، وَآيَةٌ فِي خَلْقِ الْأَشْيَاءِ، وَآيَةٌ فِي وَصْفِ الْجَنَّةِ، وَآيَةٌ فِي وَصْفِ النَّارِ. الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: فِي وَصْفِ الصَّانِعِ، وَآيَةٌ فِي إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ لَهُ، وَآيَةٌ فِي إِثْبَاتِ صِفَاتِهِ، وَآيَةٌ فِي إِثْبَاتِ رُسُلِهِ، وَآيَةٌ فِي إِثْبَاتِ كُتُبِهِ، وَآيَةٌ فِي إِثْبَاتِ الْإِسْلَامِ، وَآيَةٌ فِي نَفْيِ الْكُفْرِ. الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: سَبْعُ جِهَاتٍ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ لِلَّهِ الَّتِي لَا يَقَعُ عَلَيْهَا التَّكْيِيفُ. الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَمُبَايَنَةُ الشِّرْكِ، وَإِثْبَاتُ الْأَوَامِرِ، وَمُجَانَبَةُ الزَّوَاجِرِ، وَالثَّبَاتُ عَلَى الْإِيمَانِ، وَتَحْرِيمُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَطَاعَةُ رَسُولِهِ. قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: فَهَذِهِ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ قَوْلًا لِأَهْلِ الْعِلْمِ وَاللُّغَةِ فِي مَعْنَى إِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، وَهِيَ أَقَاوِيلُ يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَكُلُّهَا مُحْتَمَلَةٌ، وَتَحْتَمِلُ غَيْرَهَا. وَقَالَ الْمُرْسِيُّ: هَذِهِ الْوُجُوهُ أَكْثَرُهَا مُتَدَاخِلَةٌ، وَلَا أَدْرِي مُسْتَنَدَهَا وَلَا عَمَّنْ نُقِلَتْ، وَلَا أَدْرِي لِمَ خَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ هَذِهِ الْأَحْرُفَ السَّبْعَةَ بِمَا ذَكَرَ، مَعَ أَنَّ كُلَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْقُرْآنِ فَلَا أَدْرِي مَعْنَى التَّخْصِيصِ، وَفِيهَا الْأَشْيَاءُ لَا أَفْهَمُ مَعْنَاهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَأَكْثَرُهَا يُعَارِضُهُ حَدِيثُ عُمَرَ مَعَ هِشَامِ بْنِ حَكِيمٍ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ، فَإِنَّهُمَا لَمْ يَخْتَلِفَا فِي تَفْسِيرِهِ وَلَا أَحْكَامِهِ، إِنَّمَا اخْتَلَفَا فِي قِرَاءَةِ حُرُوفِهِ، وَقَدْ ظَنَّ كَثِيرٌ مِنَ الْعَوَامِّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْقِرَاءَاتُ السَّبْعُ، وَهُوَ جَهْلٌ قَبِيحٌ.
اخْتُلِفَ: هَلِ الْمَصَاحِفُ الْعُثْمَانِيَّةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ؟ فَذَهَبَ جَمَاعَاتٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى ذَلِكَ، وَبَنَوْا عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ تُهْمِلَ نَقْلَ شَيْءٍ مِنْهَا، وَقَدْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى نَقْلِ الْمَصَاحِفِ الْعُثْمَانِيَّةِ مِنَ الصُّحُفِ الَّتِي كَتَبَهَا أَبُو بَكْرٍ، وَأَجْمَعُوا عَلَى تَرْكِ مَا سِوَى ذَلِكَ. وَذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، إِلَى أَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَا يُحْتَمَلُ رَسْمُهَا مِنَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ فَقَطْ، جَامِعَةٌ لِلْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ الَّتِي عَرَضَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جِبْرِيلَ مُتَضَمِّنَةٌ لَهَا، لَمْ تَتْرُكْ حَرْفًا مِنْهَا. قَالَ ابْنُ الْجَزَرِيّ: وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُظْهِرُ صَوَابَهُ. وَيُجَابُ عَنِ الْأَوَّلُ بِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ: أَنَّ الْقِرَاءَةَ عَلَى الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً عَلَى الْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَ جَائِزًا لَهُمْ وَمُرَخَّصًا لَهُمْ فِيهِ، فَلَمَّا رَأَى الصَّحَابَةُ أَنَّ الْأُمَّةَ تَفْتَرِقُ وَتَخْتَلِفُ إِذَا لَمْ يَجْتَمِعُوا عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، اجْتَمَعُوا عَلَى ذَلِكَ اجْتِمَاعًا شَائِعًا، وَهُمْ مَعْصُومُونَ مِنَ الضَّلَالَةِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَرْكُ وَاجِبٍ وَلَا فِعْلُ حَرَامٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقُرْآنَ نُسِخَ مِنْهُ فِي الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ وَغُيِّرَ، فَاتَّفَقَ رَأْيُ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنْ كَتَبُوا مَا تَحَقَّقُوا أَنَّهُ قُرْآنٌ مُسْتَقِرٌّ فِي الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ، وَتَرَكُوا مَا سِوَى ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَشْتَةَ فِي الْمَصَاحِفِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي فَضَائِلِهِ، مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ عُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ، قَالَ: الْقِرَاءَةُ الَّتِي عُرِضَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ هِيَ الْقِرَاءَةُ الَّتِي يَقْرَؤُهَا النَّاسُ الْيَوْمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَشْتَةَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: كَانَ جِبْرِيلُ يُعَارِضُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ سَنَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مَرَّةً، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ عَارَضَهُ مَرَّتَيْنِ. فَيَرَوْنَ أَنْ تَكُونَ قِرَاءَتُنَا هَذِهِ عَلَى الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّة: يُقَالُ إِنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ شَهِدَ الْعَرْضَةَ الْأَخِيرَةَ الَّتِي بُيِّنَ فِيهَا مَا نُسِخَ وَمَا بَقِيَ، وَكَتَبَهَا لِرَسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَرَأَهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ يُقْرِئُ النَّاسَ بِهَا حَتَّى مَاتَ؛ وَلِذَلِكَ اعْتَمَدَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِي جَمْعِهِ، وَوَلَّاهُ عُثْمَانُ كَتْبَ الْمَصَاحِفِ.
قَالَ الْجَاحِظُ: سَمَّى اللَّهُ كِتَابَهُ اسْمًا مُخَالِفًا لِمَا سَمَّى الْعَرَبُ كَلَامَهُمْ عَلَى الْجَمْلِ وَالتَّفْصِيلِ، سَمَّى جُمْلَتَهُ: قُرْآنًا، كَمَا سَمَّوْا: دِيوَانًا، وَبَعْضُهُ سُورَةٌ كَقَصِيدَةٍ، وَبَعْضُهَا آيَةٌ كَالْبَيْتِ، وَآخِرُهَا فَاصِلَةٌ كَقَافِيَّةٍ. وَقَالَ أَبُو الْمَعَانِي عُزَيْزِيُّ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمَعْرُوفُ بِشَيْذَلَةَ- بِضَمِّ عَيْنِ عُزَيْزِيٍّ- فِي كِتَابِ الْبُرْهَان: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سَمَّى الْقُرْآنَ بِخَمْسَةٍ وَخَمْسِينَ اسْمًا: سَمَّاهُ كِتَابًا وَمُبِينًا فِي قَوْلِه: {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الدُّخَان: 1- 2]. وَقُرْآنًا وَكَرِيمًا فِي قَوْلِه: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الْوَاقِعَة: 77]. وَكَلَامًا: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التَّوْبَة: 6]. وَنُورًا: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النِّسَاء: 174]. وَهُدًى وَرَحْمَةً: {هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يُونُسَ: 57]. وَفُرْقَانًا: {نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الْفُرْقَان: 1]. وَشِفَاءً: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ} [الْإِسْرَاء: 82]. وَمَوْعِظَةً: {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يُونُسَ: 57]. وَذِكْرًا وَمُبَارَكًا: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} [الْأَنْبِيَاء: 50]. وَعَلِيًّا: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لِعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزُّخْرُف: 4]. وَحِكْمَةٌ: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} [الْقَمَر: 5]. وَحَكِيمًا: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يُونُسَ: 1]. وَمُهَيْمِنًا: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [الْمَائِدَة: 48]. وَحَبْلًا: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} [آلِ عِمْرَانَ: 103]. وَصِرَاطًا مُسْتَقِيمًا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} [الْأَنْعَام: 153]. وَقَيِّمًا: {قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا} [الْكَهْف: 2]. وَقَوْلًا وَفَصْلًا: {إِنَّهُ لِقَوْلٌ فَصْلٌ} [الطَّارِق: 13]. وَنَبَأً عَظِيمًا: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} [النَّبَأ: 1- 2]. وَأَحْسَنَ الْحَدِيثِ، وَمُتَشَابِهًا، وَمَثَانِيَ: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزُّمَر: 23]. وَتَنْزِيلًا: {وَإِنَّهُ لِتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشُّعَرَاء: 192]. وَرُوحًا: {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشُّورَى: 52]. وَوَحْيًا: {إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الْأَنْبِيَاء: 45]. وَعَرَبِيًّا: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يُوسُفَ: 2]. وَبَصَائِرَ: {هَذَا بَصَائِرُ} [الْأَعْرَاف: 203]. وَبَيَانًا: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} [آلِ عِمْرَانَ: 138]. وَعِلْمًا: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [الْبَقَرَة: 145]. وَحَقًّا: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} [آلِ عِمْرَانَ: 62]. وَهَدْيًا: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي} [الْإِسْرَاء: 9]. وَعَجَبًا: {قُرْآنًا عَجَبًا} [الْجِنِّ]. وَتَذْكِرَةً: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ} [الْحَاقَّة: 48]. وَالْعُرْوَةَ الْوُثْقَى: {اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [الْبَقَرَة: 256]. وَصِدْقًا: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} [الزُّمَر: 33]. وَعَدْلًا: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الْأَنْعَام: 115]. وَأَمْرًا: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ} [الطَّلَاق: 5]. وَمُنَادِيًا: {سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} [آلِ عِمْرَانَ: 193]. وَبُشْرَى: {هُدًى وَبُشْرَى} [النَّمْل: 3]. وَمَجِيدًا: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} [الْبُرُوج: 21]. وَزَبُورًا: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ} [الْأَنْبِيَاء: 105]. وَبَشِيرًا وَنَذِيرًا: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [فُصِّلَتْ: 3- 4]. وَعَزِيزًا: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فُصِّلَتْ: 41]. وَبَلَاغًا: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ} [إِبْرَاهِيمَ: 52]. وَقَصَصًا: {أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يُوسُفَ: 3]. وَسَمَّاهُ أَرْبَعَةَ أَسْمَاءٍ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} [عَبَسَ: 14]. انْتَهَى. فَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ كِتَابًا: فَلِجَمْعِهِ أَنْوَاعَ الْعُلُومِ وَالْقِصَصِ وَالْأَخْبَارِ عَلَى أَبْلَغِ وَجْهٍ، وَالْكِتَابُ لُغَةً: الْجَمْعُ. وَالْمُبِينَ: لْأَنَّهُ أَبَانَ، أَيْ: أَظْهَرَ الْحَقَّ مَنِ الْبَاطِلِ. وَأَمَّا الْقُرْآنُ: فَاخْتُلِفَ فِيهِ، فَقَالَ جَمَاعَةٌ: هُوَ اسْمُ عَلَمٍ غَيْرُ مُشْتَقٍّ، خَاصٌّ بِكَلَامِ اللَّهِ. فَهُوَ غَيْرُ مَهْمُوزٍ، وَبِهِ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الشَّافِعِيِّ، أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ وَالْخَطِيبُ وَغَيْرُهُمَا عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ يَهْمِزُ قَرَأْتَ، وَلَا يَهْمِزُ الْقُرْآنَ وَيَقُولُ: الْقُرَانَ وَمَعْنَى اسْمِ الْقُرْآنِ اسْمٌ وَلَيْسَ بِمَهْمُوزٍ وَلَمْ يُؤْخَذْ مِنْ قِرَاءَةٍ وَلَكِنَّهُ اسْمٌ لِكِتَابِ اللَّهِ، مِثْلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَقَالَ قَوْمٌ، مِنْهُمُ الْأَشْعَرِيُّ: هُوَ مُشْتَقٌّ مَنْ قَرَنْتُ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ، إِذَا ضَمَمْتَ أَحَدَهُمَا إِلَى الْآخَرِ، وَسُمِّيَ بِهِ، لِقِرَانِ السُّوَرِ وَالْآيَاتِ وَالْحُرُوفِ فِيهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْقَرَائِنِ؛ لْأَنَّ الْآيَاتِ مِنْهُ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيُشَابِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَهِيَ قَرَائِنُ. وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ بِلَا هَمْزٍ أَيْضًا، وَنُونُهُ أَصْلِيَّةٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا الْقَوْلُ سَهْوٌ وَالصَّحِيحُ: أَنَّ تَرْكَ الْهَمْزِ فِيهِ مِنْ بَابِ التَّخْفِيفِ وَنَقْلِ حَرَكَةِ الْهَمْزِ إِلَى السَّاكِنِ قَبْلَهَا. وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ مَهْمُوزٌ: فَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمُ اللِّحْيَانِيُّ: هُوَ مَصْدَرٌ لَقَرَأْتُ، كَالرُّجْحَانِ وَالْغُفْرَانِ، سُمِّيَ بِهِ الْكِتَابُ الْمَقْرُوءُ، مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الْمَفْعُولِ بِالْمَصْدَرِ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمُ الزَّجَّاجُ: هُوَ وَصْفٌ عَلَى فُعْلَانٌ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْقَرْءِ بِمَعْنَى الْجَمْعِ، وَمِنْهُ قَرَأْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ، أَيْ: جَمَعْتُهُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَسُمِّيَ بِذَلِكَ، لْأَنَّهُ جَمَعَ السُّوَرِ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: لَا يُقَالُ لِكُلِّ جَمْعٍ: قُرْآنٌ، وَلَا لِجَمْعِ كَلِّ كَلَامٍ: قُرْآنٌ. قَالَ: وَإِنَّمَا سُمِّيَ قُرْآنًا؛ لِكَوْنِهِ جَمْعٌ، ثَمَرَاتُ الْكُتُبِ السَّالِفَةِ الْمُنَزَّلَةِ. وَقِيلَ: لْأَنَّهُ جَمَعَ أَنْوَاعَ الْعُلُومِ كُلَّهَا. وَحَكَى قُطْرُبُ قَوْلًا: إِنَّهُ إِنَّمَا سُمِّيَ قُرْآنًا؛ لْأَنَّ الْقَارِئَ يُظْهِرُهُ وَيُبَيِّنُهُ مِنْ فِيهِ، أَخْذًا مِنْ قَوْلِ الْعَرَب: مَا قَرَأَتِ النَّاقَةُ سَلًا قَطُّ، أَيْ: مَا رَمَتْ بِوَلَدٍ، أَيْ: مَا أَسْقَطَتْ وَلَدًا، أَيْ: مَا حَمَلَتْ قَطُّ، وَالْقُرْآنُ يَلْقُطُهُ الْقَارِئُ مِنْ فِيهِ وَيُلْقِيهِ، فَسُمِّيَ قُرْآنًا. قُلْتُ: وَالْمُخْتَارُ عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ. وَأَمَّا الْكَلَامُ: فَمُشْتَقٌّ مِنَ الْكَلِمِ بِمَعْنَى التَّأْثِيرِ؛ لْأَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ فَائِدَةً لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ. وَأَمَّا النُّورُ: فَلِأَنَّهُ يُدْرَكُ بِهِ غَوَامِضُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. وَأَمَّا الْهُدَى: فَلْأَنَّ فِيهِ الدَّلَالَةَ عَلَى الْحَقِّ، وَهُوَ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْفَاعِلِ مُبَالَغَةً. وَأَمَّا الْفُرْقَانُ: فَلِأَنَّهُ فَرْقٌ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَجَّهَهُ بِذَلِكَ مُجَاهِدٌ، كَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَأَمَّا الشِّفَاءُ: فَلْأَنَّهُ يَشْفِي مِنَ الْأَمْرَاضِ الْقَلْبِيَّةِ كَالْكُفْرِ وَالْجَهْلِ وَالْغِلِّ، وَالْبَدَنِيَّةِ أَيْضًا. وَأَمَّا الذِّكْرُ: فَلِمَا فِيهِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَأَخْبَارِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَالذِّكْرُ أَيْضًا الشَّرَفُ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لِذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزُّخْرُف: 44] أَيْ: شَرَفٌ؛ لْأَنَّهُ بِلُغَتِهِمْ. وَأَمَّا الْحِكْمَةُ: فَلْأَنَّهُ نَزَلَ عَلَى الْقَانُونِ الْمُعْتَبَرِ مِنْ وَضْعِ كُلِّ شَيْءٍ فِي مَحَلِّهِ، أَوْ لْأَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْحِكْمَةِ. وَأَمَّا الْحَكِيمُ: فَلْأَنَّهُ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ بِعَجِيبِ النَّظْمِ وَبَدِيعِ الْمَعَانِي، وَأُحْكِمَتْ عَنْ تَطَرُّقِ التَّبْدِيلِ وَالتَّحْرِيفِ وَالِاخْتِلَافِ وَالتَّبَايُنِ. وَأَمَّا الْمُهَيْمِنُ: فَلْأَنَّهُ شَاهِدٌ عَلَى جَمِيعِ الْكُتُبِ وَالْأُمَمِ السَّالِفَةِ. وَأَمَّا الْحَبْلُ: فَلْأَنَّهُ مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ وَصَلَ إِلَى الْجَنَّةِ أَوِ الْهُدَى وَالْحَبَلُ: السَّبَبُ. وَأَمَّا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ: فَلْأَنَّهُ طَرِيقٌ إِلَى الْجَنَّةِ، قَوِيمٌ لَا عِوَجَ فِيهِ. وَأَمَّا الْمَثَانِي: فَلْأَنَّ فِيهِ بَيَانُ قِصَصِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ فَهُوَ ثَانٍ لِمَا تَقَدَّمَهُ. وَقِيلَ: لِتَكْرَارِ الْقَصَصِ وَالْمَوَاعِظِ فِيهِ. وَقِيلَ: لْأَنَّهُ نَزَلَ مَرَّةً بِالْمَعْنَى وَمَرَّةً بِاللَّفْظِ وَالْمَعْنَى لِقَوْلِهِ {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى} [الْأَعْلَى: 18]، حَكَاهُ الْكَرْمَانِيُّ فِي عَجَائِبِهِ. وَأَمَّا الْمُتَشَابِهُ: فَلِأَنَّهُ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي الْحُسْنِ وَالصِّدْقِ. وَأَمَّا الرُّوحُ: فَلْأَنَّهُ تَحْيَا بِهِ الْقُلُوبُ وَالْأَنْفُسُ. وَأَمَّا الْمَجِيدُ: فَلِشَرَفِهِ. وَأَمَّا الْعَزِيزُ: فَلْأَنَّهُ يَعِزُّ عَلَى مَنْ يَرُومُ مُعَارَضَتَهُ. وَأَمَّا الْبَلَاغُ: فَلْأَنَّهُ أُبْلِغَ بِهِ النَّاسُ مَا أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عَنْهُ أَوْ لِأَنَّ فِيهِ بَلَاغَةً وَكِفَايَةً عَنْ غَيْرِهِ. قَالَ السِّلَفِيُّ فِي بَعْضِ أَجْزَائِه: سَمِعْتُ أَبَا الْكَرَمِ النَّحْوِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ التَّنُوخِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ الرُّمَّانِيَّ سُئِلَ: كُلُّ كِتَابٍ لَهُ تَرْجَمَةٌ، فَمَا تَرْجَمَةُ كِتَابِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلْيُنْذَرُوا بِهِ} [إِبْرَاهِيمَ: 52]. وَذَكَرَ أَبُو شَامَةَ وَغَيْرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131] إِنَّهُ الْقُرْآنُ.
فَائِدَةٌ: حَكَى الْمُظَفَّرِيُّ فِي تَارِيخِهِ قَالَ: لَمَّا جَمَعَ أَبُو بَكْرٍ الْقُرْآنَ قَالَ سَمُّوهُ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَمُّوهُ إِنْجِيلًا، فَكَرِهُوهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَمُّوهُ سِفْرًا، فَكَرِهُوهُ مِنْ يَهُودٍ. فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: رَأَيْتُ بِالْحَبَشَةِ كِتَابًا يَدْعُونَهُ الْمُصْحَفَ، فَسَمَّوْهُ بِهِ. قُلْتُ: أَخْرَجَ ابْنُ أَشْتَةَ فِي كِتَابِ الْمَصَاحِفِ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: لَمَّا جَمَعُوا الْقُرْآنِ فَكَتَبُوهُ فِي الْوَرَقِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْتَمِسُوا لَهُ اسْمًا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: السِّفْرُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُصْحَفُ؛ فَإِنَّ الْحَبَشَةَ يُسَمُّونَهُ الْمُصْحَفَ. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَوَّلَ مَنْ جَمَعَ كِتَابَ اللَّهَ وَسَمَّاهُ الْمُصْحَفَ. ثُمَّ أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ وَسَيَأْتِي فِي النَّوْعِ الَّذِي يَلِي هَذَا.
فَائِدَةٌ ثَانِيَةٌ: أَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَغَيْرُهُ، عَنْ كَعْبٍ، قَالَ فِي التَّوْرَاة: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي مُنْزِلٌ عَلَيْكَ تَوْرَاةً حَدِيثَةً تَفْتَحُ أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: لَمَّا أَخَذَ مُوسَى الْأَلْوَاحَ قَالَ: يَا رَبِّ، إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً، أَنَاجِيلُهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ، فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي. قَالَ: تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ. فَفِي هَذَيْنَ الْأَثَرَيْنِ تَسْمِيَةُ الْقُرْآنِ تَوْرَاةً وَإِنْجِيلًا، وَمَعَ هَذَا لَا يَجُوزُ الْآنَ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَهَذَا كَمَا سُمِّيَتِ التَّوْرَاةُ فُرْقَانًا فِي قَوْلِه: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ} [الْبَقَرَة: 53] وَسَمَّى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّبُورَ قُرْآنًا فِي قَوْلِه: «خُفِّفَ عَلَى دَاوُدَ الْقُرْآنُ».
قَالَ الْقُتَبِيُّ: السُّورَةُ تُهْمَزُ وَلَا تُهْمَزُ، فَمَنْ هَمَزَهَا جَعَلَهَا مِنْ أَسْأَرَتْ، أَيْ: أَفْضَلَتْ، مِنَ السُّؤْرِ، وَهُوَ: مَا بَقِيَ مِنَ الشَّرَابِ فِي الْإِنَاءِ، كَأَنَّهَا قِطْعَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ. وَمَنْ لَمْ يَهْمِزْهَا جَعَلَهَا مِنَ الْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمِ وَسَهَّلَ هَمْزَهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ يُشَبِّهُهَا بِسُورَةِ الْبِنَاءِ، أَيْ: الْقِطْعَةُ مِنْهُ، أَيْ: مَنْزِلَةٌ بَعْدَ مَنْزِلَةٍ. وَقِيلَ: مِنْ سُوَرِ الْمَدِينَةِ، لِإِحَاطَتِهَا بِآيَاتِهَا وَاجْتِمَاعِهَا، كَاجْتِمَاعِ الْبُيُوتِ بِالسُّورِ وَمِنْهُ السُّوَارُ لِإِحَاطَتِهِ بِالسَّاعِدِ. وَقِيلَ: لَارْتِفَاعِهَا؛ لْأَنَّهَا كَلَامُ اللَّهِ، وَالسُّورَةُ الْمَنْزِلَةُ الرَّفِيعَةُ. قَالَ النَّابِغَةُ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُورَةً *** تَرَى كُلَّ مُلْكٍ حَوْلَهَا يَتَذَبْذُبٍ وَقِيلَ: لِتَرْكِيبِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، مِنَ التَّسَوُّرِ بِمَعْنَى التَّصَاعُدِ وَالتَّرَكُّبِ، وَمِنْهُ: {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص: 21]. وَقَالَ الْجَعْبَرِيُّ: حَدُّ السُّورَةِ قُرْآنٌ يَشْتَمِلُ عَلَى آيَةٍ، ذِي فَاتِحَةٍ وَخَاتِمَةٍ، وَأَقَلُّهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: السُّورَةُ الطَّائِفَةُ الْمُتَرْجَمَةُ تَوْقِيفًا، أَي: الْمُسَمَّاةُ بِاسْمٍ خَاصٍّ بِتَوْقِيفٍ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ ثَبَتَ جَمِيعُ أَسْمَاءِ السُّوَرِ بِالتَّوْقِيفِ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ، وَلَوْلَا خَشْيَةُ الْإِطَالَةِ لَبَيَّنْتُ ذَلِكَ. وَمِمَّا يَدُلُّ لِذَلِكَ: مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ: سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَسُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ، يَسْتَهْزِئُونَ بِهَا، فَنَزَلَ {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الْحِجْر: 95]. وَقَدْ كَرِهَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُقَالَ: سُورَةُ كَذَا لِمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «لَا تَقُولُوا سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَلَا سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ وَلَا سُورَةُ النِّسَاءِ، وَكَذَا الْقُرْآنُ كُلُّهُ، وَلَكِنْ قُولُوا: السُّورَةُ الَّتِي تُذْكَرُ فِيهَا الْبَقَرَةُ، وَالَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا آلُ عِمْرَانَ، وَكَذَا الْقُرْآنُ كُلُّهُ» وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، بَلِ ادَّعَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إِنَّمَا يُعْرَفُ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عُمَرَ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَقَدْ صَحَّ إِطْلَاقُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهَا عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي الصَّحِيح: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ. وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَكْرَهْهُ الْجُمْهُورُ.
قَدْ يَكُونُ لِلسُورَةِ اسْمٌ وَاحِدٌ وَيَكُونُ لَهَا أَيْضًا أَسْمَاءُ مُتَعَدِّدَةٌ وَذَلِكَ لِشَرَفِ السُّورَةِ، وَهُوَ كَثِيرٌ. وَقَدْ يَكُونُ لَهَا اسْمَانِ فَأَكْثَرُ؛ وَمِنْ ذَلِكَ: الْفَاتِحَةُ: وَقَدْ وَقَفْتُ لَهَا عَلَى نَيْفٍ وَعِشْرِينَ اسْمًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى شَرَفِهَا، فَإِنَّ كَثْرَةَ الْأَسْمَاءِ دَالَّةٌ عَلَى شَرَفِ الْمُسَمَّى. أَحَدُهَا: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَتَعَدُّدُ أَسْمَائِهَا: أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «هِيَ أُمُّ الْقُرْآنِ وَهِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي». وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لْأَنَّهُ يُفْتَتَحُ بِهَا فِي الْمَصَاحِفِ، وَفِي التَّعْلِيمِ، وَفِي الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ. وَقِيلَ: لْأَنَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ. وَقِيلَ: لْأَنَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ كُتِبَتْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. حَكَاهُ الْمُرْسِيُّ، وَقَالَ: إِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ. وَقِيلَ:؛ لْأَنَّ الْحَمْدَ فَاتِحَةُ كُلِّ كَلَامٍ. وَقِيلَ: لْأَنَّهَا فَاتِحَةُ كُلِّ كِتَابٍ. حَكَاهُ الْمُرْسِيُّ. وَرَدَ: بِأَنَّ الَّذِي افْتُتِحَ بِهِ كُلُّ كِتَابٍ هُوَ الْحَمْدُ فَقَطْ لَا جَمِيعَ السُّورَةِ، وَبِأَنَّ الظَّاهِرَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ الْقُرْآنُ، لَا جِنْسَ الْكِتَابِ. قَالَ: لْأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ مِنْ أَسْمَائِهَا فَاتِحَةُ الْقُرْآنِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ وَالْقُرْآنِ وَاحِدًا. ثَانِيهَا: فَاتِحَةُ الْقُرْآن: كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْمُرْسِيُّ. وَثَالِثُهَا وَرَابِعُهَا: أُمُّ الْكِتَابِ، وَأُمُّ الْقُرْآن: وَقَدْ كَرِهَ ابْنُ سِيرِينَ أَنْ تُسَمَّى أُمَّ الْكِتَابِ، وَكَرِهَ الْحَسَنُ أَنْ تُسَمَّى أُمَّ الْقُرْآنِ وَوَافَقَهُمَا بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ; لْأَنَّ أُمَّ الْكِتَابِ هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، قَالَ تَعَالَى: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرَّعْد: 39]. {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ} [الزُّخْرُف: 4] وَآيَاتُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، قَالَ تَعَالَى: {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آلِ عِمْرَانَ: 7]، قَالَ الْمُرْسِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثٌ لَا يَصِحُّ: لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ أُمُّ الْكِتَابِ وَلْيَقُلْ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ. قُلْتُ: هَذَا لَا أَصْلَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ الضُّرَيْسِ بِهَذَا اللَّفْظِ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، فَالْتَبَسَ عَلَى الْمُرْسِيِّ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ تَسْمِيَتُهَا بِذَلِكَ، فَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «إِذَا قَرَأْتُمُ الْحَمْدَ فَاقْرَءُوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؛ إِنَّهَا أُمُّ الْقُرْآنِ وَأُمُّ الْكِتَابِ وَالسَّبْعُ الْمَثَانِي». وَاخْتُلِفَ: لِمَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؟ فَقِيلَ: لْأَنَّهَا يُبْدَأُ بِكِتَابَتِهَا فِي الْمَصَاحِفِ وَبِقِرَاءَتِهَا فِي الصَّلَاةِ قَبْلَ السُّورَةِ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي مَجَازِهِ، وَجَزَمَ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ. وَاسْتَشْكَلَ بِأَنَّ ذَلِكَ يُنَاسِبُ تَسْمِيَتَهَا فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، لَا أُمَّ الْكِتَابِ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ ذَلِكَ بِالنَّظَرِ بِأَنَّ الْأُمَّ مَبْدَأُ الْوَلَدِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِتُقَدُّمِهَا وَتَأَخُّرِ مَا سِوَاهَا تَبَعًا لَهَا؛ لْأَنَّهَا أُمَّتُهُ، أَيْ: تَقَدَّمَتْهُ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ لِرَايَةِ الْحَرْب: أُمٌّ، لِتَقَدُّمِهَا وَاتِّبَاعِ الْجَيْشِ لَهَا، وَيُقَالُ لِمَا مَضَى مِنْ سِنِي إِنْسَانٍ: أَمْ، لِتُقَدُّمِهَا وَلِمَكَّةَ: أُمُّ الْقُرَى، عَلَى سَائِرِ الْقُرَى. وَقِيلَ: أَمُّ الشَّيْء: أَصْلُهُ، وَهِيَ: أَصْلُ الْقُرْآنِ، لَانْطِوَائِهَا عَلَى جَمِيعِ أَغْرَاضِ الْقُرْآنِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْعُلُومِ وَالْحِكَمِ، كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ فِي النَّوْعِ الثَّالِثِ وَالسَّبْعِينَ. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لْأَنَّهَا أَفْضَلُ السُّوَرِ، كَمَا يُقَالُ لِرَئِيسِ الْقَوْم: أُمُّ الْقَوْمِ. وَقِيلَ: لْأَنَّ حُرْمَتَهَا كَحُرْمَةِ الْقُرْآنِ كُلِّهِ. وَقِيلَ: لْأَنَّ مَفْزَعَ أَهْلِ الْإِيمَانِ إِلَيْهَا. كَمَا يُقَالُ لِلرَّايَة: أُمٌّ؛ لْأَنَّ مَفْزَعَ الْعَسْكَرِ إِلَيْهَا. وَقِيلَ: لْأَنَّهَا مُحْكَمَةٌ وَالْمُحْكَمَاتُ أُمُّ الْكِتَابِ. خَامِسُهَا: الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ: رَوَى أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأُمِّ الْقُرْآن: هِيَ أُمُّ الْقُرْآنِ وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَهِيَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ» وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لَاشْتِمَالِهَا عَلَى الْمَعَانِي الَّتِي فِي الْقُرْآنِ. سَادِسُهَا: السَّبْعُ الْمَثَانِي: وَرَدَ تَسْمِيَتُهَا بِذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ أَمَّا تَسْمِيَتُهَا سَبْعًا، فَلْأَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ. أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ. وَقِيلَ: فِيهَا سَبْعَةُ آدَابٍ، فِي كُلِّ آيَةٍ أَدَبٌ، وَفِيهِ بُعْدٌ. وَقِيلَ: لْأَنَّهَا خَلَتْ مِنْ سَبْعَةِ أَحْرُفٍ: الثَّاءُ وَالْجِيمُ وَالْخَاءُ وَالزَّايُ وَالشِّينُ وَالظَّاءُ وَالْفَاءُ. قَالَ الْمُرْسِيُّ: وَهَذَا أَضْعَفُ مِمَّا قَبِلَهُ؛ لْأَنَّ الشَّيْءَ إِنَّمَا يُسَمَّى بِشَيْءٍ وُجِدَ فِيهِ لَا بِشَيْءٍ فُقِدَ مِنْهُ. وَأَمَّا الْمَثَانِي: فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنَ الثَّنَاءِ، لِمَا فِيهَا مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الثَّنْيَا؛ لْأَنَّ اللَّهَ اسْتَثْنَاهَا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنِ التَّثْنِيَة: قِيلَ: لْأَنَّهَا تَثْنِي فِي كُلِّ رَكْعَةٍ. وَيُقَوِّيهِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ- بِسَنَدٍ حَسَنٍ- عَنْ عُمَرَ، قَالَ: السَّبْعُ الْمَثَانِي فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، تَثْنِي فِي كُلِّ رَكْعَةٍ. وَقِيلَ: لْأَنَّهَا تُثَنَّى بِسُورَةٍ أُخْرَى. وَقِيلَ: لْأَنَّهَا نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ. وَقِيلَ: لْأَنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى قِسْمَيْن: ثَنَاءٌ وَدُعَاءٌ. وَقِيلَ: لْأَنَّهَا كُلَّمَا قَرَأَ الْعَبْدُ مِنْهَا آيَةً ثَنَاهُ اللَّهُ بِالْإِخْبَارِ عَنْ فِعْلِهِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ. وَقِيلَ: لْأَنَّهَا اجْتَمَعَ فِيهَا فَصَاحَةُ الْمَبَانِي وَبَلَاغَةُ الْمَعَانِي. وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. سَابِعُهَا: الْوَافِيَةُ: كَانَ سُفْيَانُ بْنُ عَيْنِيَّةَ يُسَمِّيهَا بِهِ؛ لْأَنَّهَا وَافِيَةٌ بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمَعَانِي، قَالَهُ فِي الْكَشَّافِ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: لْأَنَّهَا لَا تَقْبَلُ التَّصْنِيفَ، فَإِنَّ كُلَّ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ لَوْ قُرِئَ نِصْفُهَا فِي رَكْعَةٍ وَالنِّصْفُ الثَّانِي فِي أُخْرَى لَجَازَ، بِخِلَافِهَا. قَالَ الْمُرْسِيُّ: لْأَنَّهَا جَمَعَتْ بَيْنَ مَا لِلَّهِ وَبَيْنَ مَا لِلْعَبْدِ. ثَامِنُهَا: الْكَنْزُ: لِمَا تَقَدَّمَ فِي أُمِّ الْقُرْآنِ. قَالَهُ فِي الْكَشَّافِ، وَوَرَدَ تَسْمِيَتُهَا بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ السَّابِقِ فِي النَّوْعِ الرَّابِعَ عَشَرَ. تَاسِعُهَا: الْكَافِيَةُ: لْأَنَّهَا تَكْفِي فِي الصَّلَاةِ عَنْ غَيْرِهَا، وَلَا يَكْفِي عَنْهَا غَيْرُهَا. عَاشِرُهَا: الْأَسَاسُ: لْأَنَّهَا أَصْلُ الْقُرْآنِ وَأَوَّلُ سُورَةٍ فِيهِ. حَادِي عَشْرِهَا: النُّورُ. ثَانِي عَشْرِهَا، وَثَالِثُ عَشْرِهَا: سُورَةُ الْحَمْدِ، وَسُورَةُ الشُّكْرِ. رَابِعُ عَشْرِهَا، وَخَامِسُ عَشْرِهَا: سُورَةُ الْحَمْدِ الْأُولَى وَسُورَةُ الْحَمْدِ الْقُصْرَى. سَادِسُ عَشْرِهَا، وَسَابِعُ عَشْرِهَا وَثَامِنُ عَشْرِهَا: الرُّقْيَةُ، وَالشِّفَاءُ، وَالشَّافِيَةُ، لِلْأَحَادِيثِ الْآتِيَةِ فِي نَوْعِ الْخَوَاصِّ. تَاسِعُ عَشْرِهَا: سُورَةُ الصَّلَاة: لِتَوَقُّفِ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا. [الْعِشْرُونَ]: وَقِيلَ: إِنَّ مِنْ أَسْمَائِهَا الصَّلَاةَ أَيْضًا، لِحَدِيثِ قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ أَي: السُّورَةَ. قَالَ الْمُرْسِيُّ: لْأَنَّهَا مِنْ لَوَازِمِهَا؛ فَهُوَ مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ لَازِمِهِ، وَهَذَا الَاسْمُ الْعِشْرُونَ. الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: سُورَةُ الدُّعَاءِ لَاشْتِمَالِهَا عَلَيْهِ فِي قَوْلِه: اهْدِنَا. الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: سُورَةُ السُّؤَال: لِذَلِكَ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ. الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: سُورَةُ تَعْلِيمِ الْمَسْأَلَةِ. قَالَ الْمُرْسِيُّ: لْأَنَّ فِيهَا آدَابَ السُّؤَالِ، لْأَنَّهَا بُدِئَتْ بِالثَّنَاءِ قَبْلَهُ. الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: سُورَةُ الْمُنَاجَاةِ؛ لْأَنَّ الْعَبْدَ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ بِقَوْلِه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: سُورَةُ التَّفْوِيض: لِاشْتِمَالِهَا عَلَيْهِ فِي قَوْلِه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فَهَذَا مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ أَسْمَائِهَا، وَلَمْ تَجْتَمِعْ فِي كِتَابٍ قَبْلَ هَذَا. وَمِنْ ذَلِكَ: سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَسُوَرٌ أُخْرَى وَأَسْمَاءُ هَذِهِ السُّوَر: كَانَ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ يُسَمِّيهَا فُسْطَاطَ الْقُرْآنِ، وَوَرَدَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ: وَذَلِكَ لِعِظَمِهَا، وَلِمَا جُمِعَ فِيهَا مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَمْ تُذْكَرْ فِي غَيْرِهَا، وَفِي حَدِيثِ الْمُسْتَدْرَكِ تَسْمِيَتُهَا: سَنَامُ الْقُرْآنِ، وَسَنَامُ كُلِّ شَيْءٍ أَعْلَاهُ. وَآلُ عِمْرَانَ: رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ، عَنْ أَبِي عَطَّافٍ قَالَ: اسْمُ آلِ عِمْرَانَ فِي التَّوْرَاة: طَيِّبَةٌ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ تَسْمِيَتُهَا وَالْبَقَرَةُ الزَّهْرَاوَيْنِ. وَالْمَائِدَةُ تُسَمَّى- أَيْضًا- الْعُقُودُ وَالْمُنْقِذَةُ. قَالَ ابْنُ الْفَرَس: لْأَنَّهَا تُنْقِذُ صَاحِبَهَا مِنْ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ. وَالْأَنْفَالُ: أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لَابْنِ عَبَّاسٍ: سُورَةُ الْأَنْفَالِ؟ قَالَ: تِلْكَ سُورَةُ بَدْرٍ. وَبَرَاءَةٌ تُسَمَّى- أَيْضًا- التَّوْبَةُ، لِقَوْلِهِ فِيهَا {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ} الْآيَةَ [التَّوْبَة: 117]. وَالْفَاضِحَةُ: أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قُلْتُ لَابْنِ عَبَّاسٍ: سُورَةُ التَّوْبَةِ؟ قَالَ: التَّوْبَةُ، بَلْ هِيَ الْفَاضِحَةُ، مَا زَالَتْ تَنْزِلُ: وَمِنْهُمْ، وَمِنْهُمْ.. حَتَّى ظَنَنَّا أَنْ لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنَّا إِلَّا ذُكِرَ فِيهَا. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: مَا فَرَغَ مِنْ تَنْزِيلِ بَرَاءَةٍ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ لَا يَبْقَى مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا سَيَنْزِلُ فِيهِ. وَكَانَتْ تُسَمَّى الْفَاضِحَةَ، وَسُورَةُ الْعَذَابِ. أَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: الَّتِي يُسَمُّونَ سُورَةَ الْعَذَابِ. أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِذَا ذُكِرَ لَهُ سُورَةُ بَرَاءَةٍ، فَقِيلَ: سُورَةُ التَّوْبَةِ. قَالَ: هِيَ إِلَى الْعَذَابِ أَقْرَبُ، مَا كَادَتْ تُقْلِعُ عَنِ النَّاسِ، حَتَّى مَا كَادَتْ تُبْقِي مِنْهُمْ أَحَدًا. وَالْمُقَشْقِشَةُ: أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَابْنِ عُمَرَ: سُورَةُ التَّوْبَةِ؟. فَقَالَ: وَأَيَّتُهُنَّ سُورَةُ التَّوْبَةِ؟. فَقَالَ: بَرَاءَةٌ، فَقَالَ: وَهَلْ فَعَلَ بِالنَّاسِ الْأَفَاعِيلَ إِلَّا هِيَ؟! مَا كُنَّا نَدْعُوهَا إِلَّا الْمُقَشْقِشَةَ، أَيْ: الْمُبَرِّئَةَ مِنَ النِّفَاقِ. وَالْمُنَقِّرَةُ: أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: كَانَتْ تُسَمَّى بَرَاءَةٌ الْمُنَقِّرَةُ، نَقَرَتْ عَمَّا فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ. وَالْبُحُوثُ: بِفَتْحِ الْبَاء: أَخْرَجَ الْحَاكِمُ، عَنِ الْمِقْدَادِ أَنَّهُ قِيلَ: لَهُ: لَوْ قَعَدْتُ الْعَامَ، عَنِ الْغَزْوِ؟! قَالَ: أَتَتْ عَلَيْنَا الْبُحُوثُ يَعْنِي بَرَاءَةً... الْحَدِيثَ. وَالْحَافِرَةُ: ذَكَرَهُ ابْنُ الْفَرَسِ؛ لْأَنَّهَا حَفَرَتْ عَنْ قُلُوبِ الْمُنَافِقِينَ. وَالْمُثِيرَةُ: أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ تُسَمَّى الْفَاضِحَةُ، فَاضِحَةُ الْمُنَافِقِينَ، وَكَانَ يُقَالُ لَهَا: الْمُثِيرَةُ، أَنْبَأَتْ بِمَثَالِبِهِمْ وَعَوْرَاتِهِمْ. حَكَى ابْنُ الْفَرَس: مِنْ أَسْمَائِهَا الْمُبَعْثَرَةَ، وَأَظُنُّهُ تَصْحِيفُ الْمُنَقِّرَةِ فَإِنْ صَحَّ كَمُلَتِ الْأَسْمَاءُ الْعَشَرَةَ- ثُمَّ رَأَيْتُهُ كَذَلِكَ- الْمُبَعْثَرَةَ بِخَطِّ السَّخَاوِيِّ فِي جَمَالِ الْقُرَّاءِ وَقَالَ: لْأَنَّهَا بَعْثَرَتْ عَنْ أَسْرَارِ الْمُنَافِقِينَ. وَذَكَرَ فِيهِ- أَيْضًا- مِنْ أَسْمَائِهَا: الْمُخْزِيَةَ، وَالْمُنَكِّلَةَ، وَالْمُشَرِّدَةَ، وَالْمُدَمْدِمَةَ. (النَّحْلِ): قَالَ قَتَادَةُ: تُسَمَّى سُورَةَ النَّعَمَ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. قَالَ ابْنُ الْفَرَس: لِمَا عَدَّدَ اللَّهُ فِيهَا مِنَ النِّعَمِ عَلَى عِبَادِهِ. الْإِسْرَاءُ: تُسَمَّى أَيْضًا سُورَةُ (سُبْحَانَ) وَسُورَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ. الْكَهْفُ: وَيُقَالُ لَهَا سُورَةُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، كَذَا فِي حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: «أَنَّهَا تُدْعَى فِي التَّوْرَاةِ الْحَائِلَةَ تَحُولُ بَيْنَ قَارِئِهَا وَبَيْنَ النَّارِ». وَقَالَ: إِنَّهُ مُنْكَرٌ. (طه): تُسَمَّى أَيْضًا سُورَةَ الْكَلِيمِ. ذَكَرَهُ السَّخَاوِيُّ فِي جَمَالِ الْقُرَّاءِ. (الشُّعَرَاءُ): وَقَعَ فِي تَفْسِيرِ الْإِمَامِ مَالِكٍ تَسْمِيَتُهَا بِسُورَةِ الْجَامِعَةِ. (النَّمْلُ): تُسَمَّى أَيْضًا سُورَةُ سُلَيْمَانَ. (السَّجْدَةُ): تُسَمَّى أَيْضًا الْمَضَاجِعِ. (فَاطِرٌ): تُسَمَّى سُورَةَ الْمَلَائِكَةِ. «(يس): سَمَّاهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلْبَ الْقُرْآنِ» أَخْرَجَهُ: التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ مَرْفُوعًا: «سُورَةُ يس تُدْعَى فِي التَّوْرَاةِ الْمُعِمَّةَ، تَعُمُّ صَاحِبَهَا بِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَتُدْعَى: الدَّافِعَةُ وَالْقَاضِيَةُ، تَدْفَعُ عَنْ صَاحِبِهَا كُلَّ سُوءٍ وَتَقْضِي لَهُ كُلَّ حَاجَةٍ». وَقَالَ: إِنَّهُ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. (الزُّمَرُ): تُسَمَّى سُورَةُ الْغُرَفِ. (غَافِرٌ): تُسَمَّى سُورَةُ الطَّوْلِ، وَالْمُؤْمِنِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيهَا: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ} [غَافِرٍ: 28]. (فُصِّلَتْ): تُسَمَّى السَّجْدَةَ، وَسُورَةُ الْمَصَابِيحِ. (الْجَاثِيَةُ): تُسَمَّى الشَّرِيعَةَ، وَسُورَةُ الدَّهْرِ، حَكَاهُ الْكَرْمَانِيُّ فِي الْعَجَائِبِ. (مُحَمَّدٌ): تُسَمَّى الْقِتَالَ. (ق): تُسَمَّى سُورَةُ الْبَاسِقَاتِ. (اقْتَرَبَتْ): تُسَمَّى الْقَمَرَ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا تُدْعَى فِي التَّوْرَاةِ الْمُبَيِّضَةُ، تُبَيِّضُ وَجْهَ صَاحِبِهَا يَوْمَ تَسْوَدُّ الْوُجُوهُ. وَقَالَ: إِنَّهُ مُنْكَرٌ. (الرَّحْمَنُ): سُمِّيَتْ فِي حَدِيثٍ: عَرُوسُ الْقُرْآنِ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا. (الْمُجَادَلَةُ): سُمِّيَتْ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ: الظِّهَارَ. (الْحَشْرُ): أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: سُورَةُ الْحَشْرِ قَالَ: قُلْ سُورَةُ بَنِي النَّضِيرِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: كَأَنَّهُ كَرِهَ تَسْمِيَتَهَا بِالْحَشْرِ؛ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّ الْمُرَادَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا إِخْرَاجُ بَنِي النَّضِيرِ. (الْمُمْتَحَنَةُ): قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْمَشْهُورُ فِي هَذِهِ التَّسْمِيَةِ أَنَّهَا بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَقَدْ تُكْسَرُ، فَعَلَى الْأَوَّل: هِيَ صِفَةُ الْمَرْأَةِ الَّتِي نَزَلَتِ السُّورَةُ بِسَبَبِهَا، وَعَلَى الثَّانِي: هِيَ صِفَةُ السُّورَةِ كَمَا قِيلَ: لِبَرَاءَةٍ الْفَاضِحَةَ. وَفِي جَمَالِ الْقُرَّاءِ: تُسَمَّى أَيْضًا سُورَةُ الِامْتِحَانِ، وَسُورَةُ الْمَوَدَّةِ. (الصَّفُّ): تُسَمَّى أَيْضًا سُورَةُ الْحَوَارِيِّينَ. (الطَّلَاقُ): تُسَمَّى سُورَةُ النِّسَاءِ الْقُصْرَى، وَكَذَا سَمَّاهَا ابْنُ مَسْعُودٍ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ أَنْكَرَهُ الدَّاوُدِيُّ، فَقَالَ: لَا أَرَى قَوْلَهُ: (الْقُصْرَى) مَحْفُوظًا، وَلَا يُقَالُ فِي سُورَةِ مِنَ الْقُرْآن: قُصْرَى وَلَا صُغْرَى. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ رَدٌّ لِلْأَخْبَارِ الثَّابِتَةِ بِلَا مُسْتَنَدٍ، وَالْقِصَرُ وَالطُّولُ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ: (طُولَى الطُّولَيْنِ). وَأَرَادَ بِذَلِكَ سُورَةَ الْأَعْرَافِ. (التَّحْرِيمُ): يُقَالُ لَهَا سُورَةُ: الْمُتَحَرِّمُ وَسُورَةَ لِمَ تُحَرِّمُ. (تَبَارَكَ): تُسَمَّى سُورَةُ الْمُلْكِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: هِيَ فِي التَّوْرَاة: سُورَةُ الْمُلْكِ، وَهِيَ: الْمَانِعَةُ تَمْنَعُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: هِيَ الْمَانِعَةُ، هِيَ الْمُنْجِيَةُ: تُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. وَفِي مُسْنَدِ عُبَيْدٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «أَنَّهَا الْمُنْجِيَةُ وَالْمُجَادِلَةُ تُجَادِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّهَا لِقَارِئِهَا». وَفِي تَارِيخِ ابْنِ عَسَاكِرَ، مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّاهَا الْمُنْجِيَةَ». وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: كُنَّا نُسَمِّيهَا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَانِعَةَ. وَفِي جَمَالِ الْقُرَّاءِ: تُسَمَّى- أَيْضًا-: الْوَاقِيَةُ وَالْمَانِعَةُ. (سَأَلَ): تُسَمَّى الْمَعَارِجَ وَالْوَاقِعَ. (عَمَّ): يُقَالُ لَهَا: النَّبَأُ وَالتَّسَاؤُلُ وَالْمُعْصِرَاتُ. (لَمْ يَكُنْ): تُسَمَّى سُورَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَكَذَلِكَ سُمِّيَتْ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ، وَسُورَةُ الْبَيِّنَةِ وَسُورَةُ الْقِيَامَةِ وَسُورَةُ الْبَرِيَّةِ وَسُورَةُ الِانْفِكَاكِ، وَذُكِرَ ذَلِكَ فِي جَمَالِ الْقُرَّاءِ. (أَرَأَيْتَ): تُسَمَّى سُورَةُ الدِّينَ، وَسُورَةُ الْمَاعُونِ. (الْكَافِرُونَ): تُسَمَّى الْمُقَشْقِشَةُ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى قَالَ فِي جَمَالِ الْقُرَّاءِ: وَتُسَمَّى أَيْضًا سُورَةُ الْعِبَادَةِ. قَالَ: وَ(سُورَةُ النَّصْرِ): تُسَمَّى سُورَةُ التَّوْدِيعَ، لِمَا فِيهَا مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَ(سُورَةُ تَبَّتْ): تُسَمَّى سُورَةُ الْمَسَدِ. وَ(سُورَةُ الْإِخْلَاصِ): تُسَمَّى الْأَسَاسَ، لَاشْتِمَالِهَا عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَهُوَ أَسَاسُ الدِّينِ. قَالَ: (وَالْفَلَقُ، وَالنَّاسُ): يُقَالُ لَهُمَا الْمُعَوِّذَتَانِ، بِكَسْرِ الْوَاوِ، وَالْمُشَقْشِقَتَانِ، مِنْ قَوْلِهِمْ خَطِيبٌ مُشَقْشِقٌ.
تَنْبِيهٌ: قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْبُرْهَانُ: يَنْبَغِي الْبَحْثُ، عَنْ تَعْدَادِ الْأَسَامِي، هَلْ هُوَ تَوْقِيفِيٌّ أَوْ بِمَا يَظْهَرُ مِنَ الْمُنَاسَبَاتِ لِسُوَرِ الْقُرْآنِ؟. فَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَمْ يَعْدَمِ الْفَطِنُ أَنْ يَسْتَخْرِجَ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ مَعَانِيَ كَثِيرَةً تَقْتَضِي اشْتِقَاقَ أَسْمَاءٍ لَهَا، وَهُوَ بَعِيدٌ. قَالَ: وَيَنْبَغِي النَّظَرُ فِي اخْتِصَاصِ كُلِّ سُورَةٍ بِمَا سُمِّيَتْ بِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَرَبَ تُرَاعِي فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمُسَمَّيَاتِ أَخْذَ أَسْمَائِهَا مِنْ نَادِرٍ أَوْ مُسْتَغْرَبٍ يَكُونُ فِي الشَّيْءِ، مِنْ خَلْقٍ أَوْ صِفَةٍ تَخُصُّهُ، أَوْ تَكُونُ مَعَهُ أَحْكَمَ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَسْبَقَ؛ لِإِدْرَاكِ الرَّائِي لِلْمُسَمَّى. وَيُسَمُّونَ الْجُمْلَةَ مِنَ الْكَلَامِ وَالْقَصِيدَةِ الطَّوِيلَةِ بِمَا هُوَ أَشْهَرُ فِيهَا، وَعَلَى ذَلِكَ جَرَتْ أَسْمَاءُ سُوَرِ الْقُرْآنِ، كَتَسْمِيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِهَذَا الَاسْمِ لِقَرِينَةِ قِصَّةِ الْبَقَرَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهَا وَعَجِيبِ الْحِكْمَةِ فِيهَا، وَسُمِّيَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ بِهَذَا الَاسْمِ لَمَّا تَرَدَّدَ فِيهَا شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنْ أَحْكَامِ النِّسَاءِ، وَتَسْمِيَةِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ لِمَا وَرَدَ فِيهَا مِنْ تَفْصِيلِ أَحْوَالِهَا، وَإِنْ كَانَ وَرَدَ لَفْظُ (الْأَنْعَامِ) فِي غَيْرِهَا، إِلَّا أَنَّ التَّفْصِيلَ الْوَارِدَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} إِلَى قَوْلِه: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ} [الْأَنْعَام: 142- 144] لَمْ يَرِدْ فِي غَيْرِهَا كَمَا وَرَدَ ذِكْرُ النِّسَاءِ فِي سُوَرٍ، إِلَّا أَنَّ مَا تَكَرَّرَ وَبُسِطَ مِنْ أَحْكَامِهِنَّ لَمْ يَرِدْ فِي غَيْرِ سُورَةِ النِّسَاءِ. وَكَذَا سُورَةُ الْمَائِدَةِ لَمْ يَرِدْ ذِكْرُ الْمَائِدَةِ فِي غَيْرِهَا فَسُمِّيَتْ بِمَا يَخُصُّهَا. قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: قَدْ وَرَدَ فِي سُورَةِ (هُودٍ) ذِكْرُ نُوحٍ وَصَالِحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ وَمُوسَى، فَلِمَ خُصَّتْ بِاسْمِ هُودٍ وَحْدَهُ مَعَ أَنَّ قِصَّةَ نُوحٍ فِيهَا أَوْعَبَ وَأَطْوَلَ؟. قِيلَ: تَكَرَّرَتْ هَذِهِ الْقِصَصُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَسُورَةِ هُودٍ وَالشُّعَرَاءِ بِأَوْعَبَ مِمَّا وَرَدَتْ فِي غَيْرِهَا، وَلَمْ يَتَكَرَّرْ فِي وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ السُّوَرِ الثَّلَاثِ اسْمُ هُودٍ كَتَكَرُّرِهِ فِي سُورَتِهِ، فَإِنَّهُ تَكَرَّرَ فِيهَا أَرْبَعَةُ مَوَاضِعَ وَالتَّكْرَارُ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ الَّتِي ذَكَرْنَا. قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ تَكَرَّرَ اسْمُ نُوحٍ فِيهَا فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ؟. قِيلَ: لَمَّا أُفْرِدَتْ لِذِكْرِ نُوحٍ وَقِصَّتِهِ مَعَ قَوْمِهِ سُورَةٌ بِرَأْسِهَا، فَلَمْ يَقَعْ فِيهَا غَيْرُ ذَلِكَ كَانَتْ أَوْلَى بِأَنْ تُسَمَّى بِاسْمِهِ مِنْ سُورَةٍ تَضَمَّنَتْ قِصَّتَهُ وَقِصَّةَ غَيْرِهِ. انْتَهَى. قُلْتُ: وَلَكَ أَنْ تَسْأَلَ فَتَقُولُ: قَدْ سُمِّيَتْ سُوَرٌ جَرَتْ فِيهَا قَصَصُ أَنْبِيَاءَ بِأَسْمَائِهِمْ كَسُورَةِ نُوحٍ، وَسُورَةِ هُودٍ، وَسُورَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَسُورَةِ يُونُسَ، وَسُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَسُورَةِ طس سُلَيْمَانَ، وَسُورَةِ يُوسُفَ، وَسُورَةِ مُحَمَّدٍ، وَسُورَةِ مَرْيَمَ، وَسُورَةِ لُقْمَانَ، وَسُورَةِ الْمُؤْمِنِ. وَقِصَّةُ أَقْوَامٍ كَذَلِكَ، سُورَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَسُورَةُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَسُورَةُ الْحِجْرِ، وَسُورَةُ سَبَأٍ وَسُورَةُ الْمَلَائِكَةِ، وَسُورَةُ الْجِنِّ، وَسُورَةُ الْمُنَافِقِينَ، وَسُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ لَمْ يُفْرَدْ لِمُوسَى سُورَةٌ تُسَمَّى بِهِ مَعَ كَثْرَةِ ذِكْرِهِ فِي الْقُرْآنِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: كَادَ الْقُرْآنُ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ لِمُوسَى وَكَانَ أَوْلَى سُورَةٍ أَنْ تُسَمَّى بِهِ سُورَةُ طه أَوْ سُورَةُ الْقَصَصِ أَوِ الْأَعْرَافِ؛ لِبَسْطِ قِصَّتِهِ فِي الثَّلَاثَةِ مَا لَمْ يُبْسَطْ فِي غَيْرِهَا. وَكَذَلِكَ قِصَّةُ آدَمَ، ذُكِرَتْ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ وَلَمْ تُسَمَّ بِهِ سُورَةٌ، كَأَنَّهُ اكْتِفَاءٌ بِسُورَةِ الْإِنْسَانِ. وَكَذَلِكَ قِصَّةُ الذَّبِيحِ مِنْ بَدَائِعِ الْقَصَصِ، وَلَمْ تُسَمَّ بِهِ سُورَةُ الصَّافَّاتِ، وَقِصَّةُ دَاوُدَ ذُكِرَتْ فِي (ص) وَلَمْ تُسَمَّ بِهِ فَانْظُرْ فِي حِكْمَةِ ذَلِكَ. عَلَى أَنِّي رَأَيْتُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي جَمَالِ الْقُرَّاءِ لِلسَّخَاوِيّ: أَنَّ سُورَةَ طه تُسَمَّى سُورَةَ الْكِلِيمَ وَسَمَّاهَا الْهُذَلِيُّ فِي كَامِلِهِ سُورَةَ مُوسَى، وَأَنَّ سُورَةَ (ص) تُسَمَّى سُورَةَ دَاوُدَ، وَرَأَيْتُ فِي كَلَامِ الْجَعْبَرِيِّ أَنَّ سُورَةَ (الصَّافَّاتِ) تُسَمَّى سُورَةَ الذَّبِيحِ وَذَلِكَ يَحْتَاجُ إِلَى مُسْتَنَدٍ مِنَ الْأَثَرِ.
وَكَمَا سُمِّيَتِ السُّورَةُ الْوَاحِدَةُ بِأَسْمَاءٍ، سُمِّيَتْ سُوَرٌ بِاسْمٍ وَاحِدٍ كَالسُّوَرِ الْمُسَمَّاةِ بـ (الم) وَ(الر) عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ فَوَاتِحَ السُّوَرِ أَسْمَاءٌ لَهَا.
قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ: مَا سُمِّيَ مِنْهَا بِجُمْلَةٍ تُحْكَى نَحْوَ: {قُلْ أُوحِيَ} [الْجِنّ: 1] وَ{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النَّحْل: 1] أَوْ بِفِعْلٍ لَا ضَمِيرَ فِيهِ أُعْرِبَ إِعْرَابَ مَا لَا يَنْصَرِفُ، إِلَّا مَا فِي أَوَّلِهِ هَمْزَةُ وَصْلٍ، فَتُقْطَعُ أَلِفُهُ وَتُقْلَبُ تَاؤُهُ هَاءً فِي الْوَقْفِ وَيُكْتَبُ بِهَاءٍ عَلَى صُورَةِ الْوَقْفِ، فَتَقُولُ: قَرَأَتْ (اقْتَرَبَةْ)، وَفِي الْوَقْف: (اقْتَرَبَهْ). أَمَّا الْإِعْرَابُ فَلْأَنَّهَا صَارَتِ اسْمًا وَالْأَسْمَاءُ مُعْرَبَةٌ إِلَّا لِمُوجَبِ بِنَاءٍ. وَأَمَّا قَطْعُ هَمْزَةِ الْوَصْل: فَلْأَنَّهَا لَا تَكُونُ فِي الْأَسْمَاءِ إِلَّا فِي أَلْفَاظٍ مَحْفُوظَةٍ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا. وَأَمَّا قَلْبُ تَائِهًا هَاءً؛ فَلْأَنَّ ذَكِّ حُكْمُ تَاءِ التَّأْنِيثِ الَّتِي فِي الْأَسْمَاءِ. وَأَمَّا كَتْبُهَا هَاءً: فَلْأَنَّ الْخَطَّ تَابِعٌ لِلْوَقْفِ غَالِبًا. وَمَا سُمِّيَ مِنْهَا بِاسْمٍ: فَإِنْ كَانَ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ- وَهُوَ حَرْفٌ وَاحِدٌ- وَأُضِيفَتِ إِلَيْهِ سُورَةٌ، فَعِنْدَ ابْنِ عُصْفُورٍ، أَنَّهُ مَوْقُوفٌ لَا إِعْرَابَ فِيهِ، وَعِنْدَ الشَّلَوْبِينَ يَجُوزُ فِيهِ وَجْهَان: الْوَقْفُ وَالْإِعْرَابُ: أَمَّا الْأَوَّلُ- وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْحِكَايَةِ- فَلِأَنَّهَا حُرُوفٌ مُقَطَّعَةٌ تُحْكَى كَمَا هِيَ. وَأَمَّا الثَّانِي فَعَلَى جَعْلِهِ أَسْمَاءً لِحُرُوفِ الْهِجَاءِ، وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ صَرْفُهُ بِنَاءً عَلَى تَذْكِيرِ الْحَرْفِ وَمَنْعِهِ بِنَاءً عَلَى تَأْنِيثِهِ. فَإِنْ لَمْ تُضَفِ إِلَيْهِ سُورَةٌ لَا لَفْظًا وَلَا تَقْدِيرًا فَلَكَ الْوَقْفُ وَالْإِعْرَابُ مَصْرُوفًا وَمَمْنُوعًا. وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ حَرْفٍ: فَإِنْ وَازَنَ الْأَسْمَاءَ الْأَعْجَمِيَّةَ- كـ (طس) (حم)- وَأُضِيفَتْ إِلَيْهِ سُورَةُ أَمْ لَا، فَلَكَ الْحِكَايَةُ وَالْإِعْرَابُ مَمْنُوعًا، لِمُوَازَنَةِ قَابِيلَ وَهَابِيلَ، وَإِنْ لَمْ يُوَازِنْ فَإِنْ أَمْكَنَ فِيهِ التَّرْكِيبُ كَطَاسِينْ مِيمْ وَأُضِيفَتْ إِلَيْهِ سُورَةٌ فَلَكَ الْحِكَايَةُ وَالْإِعْرَابُ، إِمَّا مُرَكَّبًا مَفْتُوحَ النُّونِ كَحَضْرَ مَوْتَ، أَوْ مُعْرَبَ النُّونِ مُضَافًا لِمَا بَعْدَهُ وَمَصْرُوفًا وَمَمْنُوعًا عَلَى اعْتِقَادِ التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ. وَإِنْ لَمْ تُضَفْ إِلَيْهِ سُورَةٌ، فَالْوَقْفُ عَلَى الْحِكَايَةِ. وَالْبِنَاءُ كَخَمْسَةَ عَشَرَ وَالْإِعْرَابُ مَمْنُوعٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ التَّرْكِيبُ فَالْوَقْفُ لَيْسَ إِلَّا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ سُورَةُ أَمْ لَا، نَحْوُ: كهيعص وَحم عسق. وَلَا يَجُوزُ إِعْرَابُهُ؛ لْأَنَّهُ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُعْرَبَةِ، وَلَا تَرْكِيبُهُ مَزْجًا؛ لْأَنَّهُ لَا يُرَكَّبُ كَذَلِكَ أَسْمَاءٌ كَثِيرَةٌ، وَجَوَّزَ يُونُسُ إِعْرَابَهُ مَمْنُوعًا. وَمَا سُمِّيَ مِنْهَا بِاسْمِ غَيْرِ حَرْفِ هِجَاءٍ: فَإِنْ كَانَ فِيهِ اللَّامُ انْجَرَّ، نَحْوَ: الْأَنْفَالِ وَالْأَعْرَافِ وَالْأَنْعَامِ، وَإِلَّا مُنِعَ الصَّرْفُ إِنْ لَمْ يُضَفْ إِلَيْهِ سُورَةٌ، نَحْوَ: هَذِهِ هُودٌ وَنُوحٌ، وَقَرَأْتُ هُودُ وَنُوحُ، وَإِنْ أَضَفْتَ بَقِيَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلُ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا يُوجِبُ الْمَنْعَ مُنِعَ، نَحْوَ: قُرِأَتْ سُورَةُ يُونُسَ، وَإِلَّا صُرِفَ نَحْوُ: سُورَةِ نُوحٍ وَسُورَةِ هُودٍ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.
قُسِّمَ الْقُرْآنُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ وَجُعِلَ لِكُلِّ قِسْمٍ مِنْهُ اسْمٌ: أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَع: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُعْطِيتُ مَكَانَ التَّوْرَاةِ السَّبْعَ الطُّوَالَ، وَأَعْطَيْتُ مَكَانَ الزَّبُورِ الْمِئِينَ، وَأَعْطَيْتُ مَكَانَ الْإِنْجِيلِ الْمَثَانِيَ، وَفُضِّلْتُ بِالْمُفَصَّلِ». وَسَيَأْتِي مَزِيدُ كَلَامٍ فِي النَّوْعِ الَّذِي يَلِي هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي جَمَالِ الْقُرَّاءِ: قَالَ بَعْضُ السَّلَف: فِي الْقُرْآنِ مَيَادِينُ، وَبَسَاتِينُ، وَمَقَاصِيرُ، وَعَرَائِسُ، وَدَيَابِيجُ، وَرِيَاضٌ: فَمَيَادِينُهُ: مَا افْتُتِحَ بـ (الم). وَبَسَاتِينُهُ: مَا افْتُتِحَ ب(المر). وَمَقَاصِيرُهُ: الْحَامِدَاتُ. وَعَرَائِسُهُ: الْمُسَبِّحَاتُ. وَدَيَابِيجُهُ: آلُ عِمَرانَ. وَرِيَاضُهُ: الْمُفَصَّلُ. وَقَالُوا: الطَّوَاسِيمَ وَالطَّوَاسِينَ وَآل حم، وَالْحَوَامِيمَ. قُلْتُ: وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: الْحَوَامِيمُ دِيبَاجُ الْقُرْآنِ. قَالَ السَّخَاوِيُّ: وَقَوَارِعُ الْقُرْآنِ الْآيَاتُ الَّتِي يُتَعَوَّذُ بِهَا وَيُتَحَصَّنُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لْأَنَّهَا تُفْزِعُ الشَّيْطَانَ وَتَدْفَعُهُ وَتَقْمَعُهُ، كَآيَةِ الْكُرْسِيِّ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ وَنَحْوِهَا. قُلْتُ: وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: «آيَةُ الْعِزِّ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمَّ يَتَّخِذُ وَلَدًا}» الْآيَةَ [الْإِسْرَاء: 111].
|